إشكالية المصطلح وعلاقته بالعملية التعليمية

Dr. Leila ZIANE
Dr. Benali BENAHMED

الملخص:

إن للمصطلح دوراً كبيرًا في حياة الناس عامَّتِهم وخاصَّتِهم؛ إذْ هو يدخل ضِمنَ منظومة التواصل فيما بينهم، في مختلف مجالات النظر العلمي والعمل الإجرائي؛ لأن المفاهيم والمعاني إنما تنتقل إلى الأذهان بواسطة الكلمات التي اتُّفق عليها لتكون دوالّ َ عليها، والتي نعني بها المصطلحات.

والمصطلحات لا تُوضَع هكذا ارتجالا ولا عبثًا، وإنما لها دواعٍ وأسبابٌ أَدّت إلى ظهورها ونشأتها، ولعل أبرزَها هو عملية التعليم، والمتعلقة أساساً بتدريس العلوم بعد استقراء ظواهرها واستنباط قواعدها. وهذه المصطلحات تكمن أهميتها في العملية التعليمية أنها تساعد كثيرا في استقرار المعرفة على أسس وركائز علمية.

الكلمات المفتاحية: المصطلحاللغةالتعليمية

Summary

The term has a great role in the lives of people in general and in particular. It is part of the system of communication among them, in the various fields of scientific consideration and procedural action, because the concepts and meanings are transmitted to the mind by the words agreed upon to be functions on which we mean the terms.
The most important of these is the process of education, which is mainly related to the teaching of science after the extrapolation of its phenomena and the development of its bases. These terms are important in the educational process that they help greatly in the stability of knowledge on the foundations and pillars of science..

Keywords: Term – Language – Education

مفهوم المصطلح:

لقد كان شأنُ كلمة المصطلح شأنَ الكلمات والعبارات المتفق عليها عند العلماء في تفسير العلوم؛ حيث انتقلت من المعنى اللغوي إلى المعنى العلمي المجرَّد، واتخذت مدلولها العلمي بعد أن غبرت طويلا تُعرَف بمعناها اللغوي.

فدلالة المصطلح اللغوية مأخوذة من مادة (صلح)، جاء في اللسان: الصُّلحُ تصالُحُ القوم بينهم، والصُّلح السِّلم، وقد اصطلحوا واصَّلَحوا وتصالحوا واصَّالحوا، والصلاحُ نقيض الفساد1.

وأما الدلالة العلمية للمصطلح فتعني: اتفاقَ جماعة من العلماء بلفظ مُعيَّن على أمرٍ مخصوص، وهذا الاتفاقُ أو التصالح إن تمَّ بين جماعة الفقهاء في قضيةٍ نتج عنه مصطلحٌ فقهي، وإن تم الاتفاق بين النحويين نتج عن ذلك مصطلح نحوي، وهلم جرًّا من المصطلحات في سائر العلوم.

فالمصطلحات إذًا هي تلك الألفاظُ المتفَقُ عليها في الاستعمال للتعبير عن الأفكار والمعاني العلمية في أيِّ علم من العلوم. وهي لا تستقرُّ برأي فرد أو جماعة، وإنما يستقرُّ بالإجماع أو ما يشبه الإجماع، بين العلماء المشتغلين به، والمنتفعين بمزاياه.

ثُمَّ إن العلم الذي يختص بدراسة المصطلحات هو ذلك العلم الذي يدرس القواعد والمعايير التي تضبط الألفاظ والعبارات الاصطلاحية، والتي تكون خاصة بفرع من فروع العلم والمعرفة، مع تعريفها وتبويبها وتصنيفها، ثم وضعها في معاجم متخصصة في شرح وتعريف هذه المصطلحات، ويُتعارَف على هذا الفن بعلم المصطلح او بالمصطلحية Terminologie2.

عوامل نشأة المصطلح:

من العوامل المهمة التي تؤدي إلى نشأة المصطلحات التعليم الذي يجنح إلى التقعيد والتقنين، وهذا ما ذكره بِشرُ بن المعتمر، حيث قال: « والنحاة خلقوا لنا مصطلحات جديدة لم يكن للعرب بها عهد؛ لأنهم لو لم يضعوا هذه العلامات لم يستطيعوا تعريف القرويين وأبناء البلديين علم العروض والنحو، وكذلك أصحاب الحساب قد اجتلبوا أسماء جعلوها علامات للتفاهم »3.

إن كثرة المصطلحات في علم من العلوم هي لون من ألوان تقريب المفاهيم وشرحها، وهذا ما لاحظه ابن رشيق القيرواني في أسباب تسمية الخليل بن أحمد الفراهيدي لعروضه اسما اسما، وعلَّلَ ذلك بأن الخليل إنما أراد بكثرة الألقاب الشرح والتقريب. وهذا ينسحب أيضا على كل ما وسيلتُه التلقين والتعليم لكل مل يتعلّق بهذه اللغة وعلومها، ويُعنى بدراستها؛ إذْ أنها تمثل طورا من أطوارها.

وقد تظهر أحيانا مصطلحاتٌ دفاعا واستماتةً عن فكر ضَحْلٍ، أو مُواراةً لعجزٍ في التدقيق العلمي والتحصيل المعرفي، وهذا ما يكون في زمن التدهور وركود المجتمعات على مستوى العلم والمعرفة، ولقد أشار إلى هذا العامل أبو حاتم السجستاني (ت250ه) بقوله: « وإنما همُّ أحدهم إذا سُبق إلى العلم أن يُسيِّر اسمًا يخترعه ليُنسَب إليه؛ فيسمي الجرَّ خفضًا، والظرفَ صفةً، ويسمون حروف الجر حروف الصفات، والعطفَ النسقَ، ومفاعيلن في العروض فعولان، ونحو هذا التخليط»4. ويقول أبو الطيب اللغوي مُعقبًا على كلام السجستاني: « والأمرُ في زماننا هذا أصلحك اللهعلى أضعاف ما عرف أبو حاتم »5.

ثُم إن عامل التجوُّز يُمثِّل مدرجا من مدارج اللغة ونقْلَةً نوعية في حياتها وتطورها، ولا فرقَ هنا بين عالم يُعنى بالحقائق ويعكف على دراستها وتفسيرها، مُقارِباً بينها وبين واقع الحياة، ولا بين أديب يصطنع العمل الأدبي؛ بحيث يَتمُّ له التصرُّف في اللغة دون عجز أو تحجُّر، وفي أوسع نطاق.

وقد يكون اختلاف البيئة العلمية والفكرية سببا في نشوء المصطلحات واختلافها، مثل الاختلاف الحاصل بين المذاهب النحوية في الدرس اللغوي العربي؛ حيث نجد مصطلح ضمير الشأن عند البصريين، ويقابله مصطلح الضمير المجهول عند الكوفيين، وكذلك مصطلح التمييز في المذهب البصري، ويقابله مصطلح التبرئة في المذهب الكوفي.

والذي يتصفح التراث الفكري الماضي يجد كمًّا هائلاً من المصطلحات، ولانستطيع تجاوزه بيئةً وزماناً، ولذا فمن المجازفة أن نقحم المصطلحات الجديدة للحاضر بظروفه على ما مضى من مفاهيم سالفة، وهذا ما أكده محمود السعران بقوله: « نأيتُ عن اختيار المصطلح اللغوي العربي القديم ترجمةً لبعض المصطلح الإنجليزي كما صنع جماعة، وآثرتُ حيث لا أجد المقابل العربي الملائم، أن أستعمل المصطلح الأوربي، وذلك كي لا يختلط التصور القديم بالتصور الأوربي الحديث »6.

ولذلك لامناصَ من البحث والتعرُّف على ظروف المصطلحات وملابساتها، بما تحتويه من مقاصد، وبما هي تحديدٌ لمرحلةِ تحولٍ دلالي للمصطلح وفقَ جهةٍ من الجهات، وداخل مناخ معرفي مُعيَّن.

وما كتاب دلائل الإعجاز لمؤلِّفِه عبد القاهر الجرجاني سوى بيان لظروف مصطلح، وما قد لابَسَهُ من مفاهيم؛ فهو بمثابة تحقيق لِما عناه العرب بمصطلح اللفظ، ويُسهب صاحبه في المقدمات، ويلُفُّ وينشُر ليمهِّد الطريقَ أمام مصطلح آخرَ؛ يَجِدُّ في تناوله ويحُثُّ عليه ويُغري به؛ ويكشف أيضا عن أسباب تشيُّعهم لمصطلح اللفظ وإسرافهم في ذلك، فأفكروا المعاني7. ثم يُرسِّخ لمصطلح آخر بمفهوم دقيق، صار بعد ذلك جوهر نظريته؛ ألا وهو مصطلح النظم، حيث يقول: « اعلم أن ليس النظمُ إلا أن تضع كلامَك الوضعَ الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نُهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رُسمت لك فلا تُخلَّ بشيءٍ منها، وذلك أنَّا لا نعلم شيئا يبتغيه الناظم بنظمه، غيرَ أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه، فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك: زيدٌ منطلق، وزيد ينطلق، وينطلق زيد، ومنطلق زيد، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق، وزيد هو ينطلق »8.

وكان للقرآن الكريم دورٌ كبير في ظهور ونشأة المصطلحات في كثير من العلوم؛ مثل علم التفسير، وعلم أصول الفقه، وعلم الكلام، وعلوم اللغة كالنحو والصرف والأصوات والمعاجم والبلاغة، وغير ذلك.

لقد أولى علماؤنا القدماء دراسةَ المصطلحات عنايةً بالغةً؛ لأنها مَعْلَمٌ مُهمٌّ في التحديد العلمي الذي يتصل بتغير مدلولات الألفاظ، وهذا ما نجده عند الفارابي في كتابه إحصاء العلوم، وابن النديم في كتابه الفهرست، والخوارزمي في كتابه مفاتيح العلوم، والشريف الجرجاني في كتابه التعريفات؛ فيذكر مثلا الجرجاني قصده من تأليف معجمه في المصطلحات، حيث يقول: « فهذه تعريفات جمعتها، واصطلاحات أخذتها، من كتب القوم ورتبتها، على حروف الهجاء من الألف والباء إلى الياء تسهيلا لتناولها للطالبين، وتيسيرا لتعاطيها للراغبين »9.

أهمية المصطلح في العملية التعليمية

إن المصطلحات تمثل مفاتيح المعرفة، وهي بمثابة المعالم في طريق تحصيل العلم ؛ إذِ المعرفةُ في أي نوع من أنواع العلوم مفاتيحُها إنما هي المصطلحات. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن المصطلحات لها تأثيرٌ بارز سلبًا وإيجابًا في العلوم من حيث هي، وفي المعرفة من حيث هي، وفي سلوك الناس من حيث هو، وفي سياسات الدول وتأثير تلك السياسات على الناس، وفي السلوك العام، وفي التعبدات، وفي تنمية المجتمعات والمدنية وإقامة الحضارة.

والمصطلحات هي سياج المعرفة عند المعلم والمتعلم، كما أنها حلقة التواصل فيما بينهما لتتم العملية التعليمية ؛إذ هي نشاط متبادل بين الأشخاص داخل الصّف ، ينتج عنه تأثير علمي هادف، يمكّن المتعلّم من توظيف قدراته العقلية و يتفاعل إيجابيا مع المادّة التّعليمية؛ وهي العلاقة التفاعلية بين المعلّم و المتعلّم و الطريقة التعليمية التي تقود إلى أهداف تربوية محدّدة. تعمل على بناء الشخصية المفكّرة للتعبير عن نفسها.

و التّعليم هو التّدريس، و بمعناه العام نقل المعرفة من المُعلّم إلى المتعلّم، بالإضافة إلى تدريب المتعلّمين على اكتساب المهارات، و تكوين الاتجاهات و العادات، أو هو كل نشاط تعليمي يهدف إلى مساعدة الفرد على إتقان الخبرة10. كما أنّه نشاط تواصلي يقوم على أُسس نفسيّة و تربويّة ، تجعل منه تواصلاً متميّزًا عن المواقف التواصلية العادية.11

إنّ التعلّم عملية ديناميكية قائمة أساسا على ما يُقدّم للمتعلّم من معارف و معلومات ومهارات، وعلى ما يقوم به المتعلّم نفسه من أجل اكتساب هذه المعارف وتعزيزها وتحسينها باستمرار. كما يجب الاهتمام أكثر بقابليته و استجابته للعملية التعليمية ؛ إذ له دور مهم في نجاحها12. و هذه المعارف كلّها تؤدّي إلى تغيّر في أداء المتعلّم، و تعمل على التعديل في سلوكه عن طريق التمرين و الخبرة، وهو العملية العقلية المسؤولة عن النمو العقلي المطّرد للشخص، و تحسينه المستمر؛ بحيث تمكّنه من التكيّف مع بيئته ومجتمعه، و إبداع حلول للمستجدّات.13

وبما أنّ المعلّم هو محور العملية التعليمية، فهو مطالب بأن يُلمّ بمختلف مصطلحات هذا العلم لتفادي الخلط بينها، وذلك لاستخدامها استخداما سليما، و للقيام بدوره على أكمل وجه، في حسن إدارة الصفّ و توضيح بعض المفاهيم اللغوية التي تستعصي على المتعلّم، و التي يصادفها في المقررات التعليمية.

ومن بين المصطلحات التي نجد خلطا بينها: العملية و الأسلوب والاستراتيجية، فمنهم من يرادف بين (العملية) و (الاستراتيجية)، أو بين( الأساليب) و(الاستراتيجيات).14

أمّا (العملية) ففي مدلولها العام تشير إلى سلسلة من الإجراءات و الخطوات التطبيقية المرتبطة بميدان من الميادين المتنوّعة.إلاّ أنّ مفهوم العملية في معناه السيكولوجي ،وفي ارتباط مع النشاط العقلي البشري ، يدلّ أساسا على ما يمارسه العقل من أفعال و أنشطة على موضوعات مختلفة.15

أمّا عملية ديداكتيكية فهي عملية تنطلق من الأهداف لتصوّر وتنفيد وضعيات التعليم والتعلّم قصد التمكن من بلوغ الأهداف المحدّدة ،وتشمل16: الأهداف، والوسائل المتاحة لبلوغ الأهداف( محتويات،طرائق، أنشطة، وسائط)، وأخيرا التقييم والمراجعة.

أمّا (الأسلوب التعليمي) فهو طريقة في تنظيم وإنجاز العملية التعليمية وفقا لمتغيراتها المتنوّعة؛ وذلك وفقا لما يتوفّر عليه الدرس من مؤهلات واستعدادات خاصة، من ثمّ، فإنّه يختلف عن الطريقة التربوية المعقدة إلى حدّ ما، لأنّه يحمل سمات شخصية. ويمكن أن نصف الأساليب التعليمية في إطار خط متواصل ينطلق من أسلوب سلطوي مبالغا فيه إلى أسلوب متنازل عن كل سلطة؛ ونجد أساليب متوسطة متنوّعة مابين الانغلاق و الانفتاح على التلاميذ17.

لأسلوب التدريس علاقة بإنجازات التلاميذ، حيث إن له في كلّ مجال صفة: ففي المجال المعرفي، قد يكون مشطّا للتفاعلات بين تلاميذه ، ويوجّه اهتمامه إلى تقديم المعارف والمحتويات. وفي المجال العملي يمكن أن يسلك المعلّم تجاه التلاميذ أسلوب المساعدة أو يعمد إلى توجيه نشاطاتهم البيداغوجية. أمّا في المجال الاجتماعي؛ فإنّ مواقف المعلّم قد تكون مواقف تقبليّةً تتفهّم سلوك التلاميذ وآراءهم كما قد تكون مواقف سلطوية .18

أمّا (استراتيجية التعليمية) فهي استراتيجية منظمة بمنهج يصف مسار الفعل التعليمي التعلّمي بكيفية تمكّن من توقع النتائج المرغوب فيها وتخطيط وسائل بلوغها؛وتعتمد كل استراتيجية تعليمية على خطة مشتركة تشمل المكوّنات التالية19:

  • أهداف مراد بلوغها، تنبني على منطلقات محدّدة، منها المتعلّم ومكتسباته.

  • وسائل لبلوغ الأهداف،تشمل المضامين والطرائق و الأنشطة و المعيّنات.

  • تقييم للنتائج للحصول على معلومات حول مسار التعليم أو حول نتائج التعلّم وإدخال التصحيحات اللازمة.

ومن هنا يكون فهم المصطلح ضرورة حتمية لابد منها؛ إذ هو بمثابة العملة الصحيحة المتداولة في علوم مختلفة، طبيعية كانت أم هندسية أم طبية،أم اجتماعية أم تربوية ومن ثَم فهو يمثل قنوات الاتصال والتفاهم بين أصحاب تخصص معرفي معين لاستخدامه في الدلالة على معان محدَّدة، أي إنهم اصطلحوا عليه ليكون مصطلحا للتعامل السليم، فهمًا وبحثًا وتعليما وتأليفا، فيما يقومون به من إنتاج علمي متخصِّص ودقيق. وليكون المصطلحُ عملةً يسهل تداوُلُها بين المتخصصين، كان لابد له من تحديد منهجي لأبعادِ مضامينهِ وسياقاتِ استخدامِه20.

أزمة المصطلح في البحث العلمي

المصطلحات في العلوم لا بد أن تكون دقيقة في الصياغة وواضحة في الدلالة؛ بمعنى أن يكون اللفظ الموضوع للمفهوم العلمي خاضعاً لقواعد اللغة ذاتها والمتعارف عليها، وأيضا متفقا عليه في الأوساط العلمية، وذلك من خلال وسائل الوضع اللغوي المعروفة عند علماء اللغة والترجمة. ونكاد نجد هذا الاتفاق مطَّردا إلى حدٍّ مقبول في العلوم الدقيقة والعلوم التجريبية.

لقد اعتُمِدت المناهجُ الحديثة والآليات المستحدثة في سبيل استثمار اللغة ورصيدها المفرداتي والدلالي والنحوي والصرفي، وذلك بغيةَ وضع معاجم متخصصة وجامعة للمصطلحات، تستوعب مسميات الأعلام والأشياء، والمخترعات والاكتشافات21.

ولذا عمدت مجامعنا اللغوية في الوطن العربي من خلال التنسيق22، إلى الاتفاق على الوسائل الناجعة والطرائق السليمة لوضع المصطلحات العربية المناسبة للمصطلحات الأجنبية، وذلك من خلال الاستقراء والجمع، والتوليد، والاشتقاق، والمجاز، والتعريب، والنحت.

لقد قال البيروني إن الترجمة خيانة، ونحن نقول بأنها فتنة ومشكلة عويصة؛ ولكنه مع ذلك فهي أمر لامناص منه، وأيضًا هو أمر طبيعي؛ وذلك باعتبار المشكلات الناتجة عن نقل ثقافة وحضارة لغةِ مصدر إلى لغةِ هدف، وما لهما من مصطلحات، واستعمالات خاصة بكل واحدة منهما، أضِف إلى ذلك أنه لا بُدَّ من إدراك المترجمين والمصطلحيين للمصطلح من حيث مفهومُه وطبيعتُه وكيفيةُ استعمالِه. وكل هذا لا بُدَّ أيضا أن يخضع لمعطيات علمية وقوانين جماعية مرتبطة أساسًا باللغة؛ تستوجبها التجربةُ والميدان التطبيقي23.

من أجل ذلك لا بُدَّ من ضبط المفاهيم العلمية للمصطلحات بين اللغة الأصل واللغة الهدف أو المنقول إليها، وهذا لتفادي الاضطراب والفوضى في ترجمة المصطلحات وتوضيح مفاهيمها لدى طلبتنا في الجامعات، وسنضرب مثالا على هذا من خلال بعض المصطلحات اللسانية.

إن التعدد المصطلحي في المعجم الواحد المقابل للمصطلح الواحد؛ حيث نجد عدة ترجمات لمصطلح واحد، هو يعود إلى غياب منهج واضح في التقييس المصطلحي، وإلى عدم وجود تعريف واضح ودقيق للمصطلح العربي المترجم24. ولذا يجب أن يكون مصطلح واحد لمفهوم علمي واحد، وذلك طبقًا للمعادلة التالية التي:

مفهوم علمي(دقيق) + لفظ لغوي(سليم) = مصطلح صحيح(ناجح)

لا بد من التدقيق والتحقيق في المفاهيم والتصورات لأيِّ مصطلح من المصطلحات، دون أن نُغفِل السلامةَ اللغوية للفظ المـُجتَبى لهذا المصطلح، وبذلك نُحقِّق نجاحًا على مستوى الاستعمال في البحث العلمي، وعلى مستوى التواصل العلمي لِمُسْتَعْمِليه المتخصِّصين.

ترد في اللسانيات الحديثة مصطلحات ثلاثة أساسية، اشتُهرت في الدراسة العلمية، وتُسمى أحيانا بالمصطلحات السوسيرية، نسبةً إلى فردنان دي سوسيرمؤسس اللسانيات في بداية القرن العشرين، وهذه المصطلحات هي: اللغة، اللسان، والكلام؛ حيث نجد اضطرابا وخلطاً عند الطلبة وحتى بعض الأساتذة؛ سواء كان على مستوى الترجمة أم على مستوى المفهوم المتعلِّق بهذه الترجمة.

إن دي سوسيرذكر في محاضراته مفاهيم دقيقة لهذه المصطلحات (langue, langage, parole) لم يُستَفدْ منها في ترجمة المصطلحات المناسبة لها في العربية؛ إذْ هناك من يترجم المصطلح الفرنسي (langue) بالمصطلح العربي (اللسان)، ومصطلح (langage) بمصطلح (اللغة) 25، وثَمَّةَ من يترجم عكسَ ذلك؛ حيث يقابل مصطلح (langue) بمصطلح (اللغة)، ومصطلح (langage) بمصطلح (اللسان)26، ونحن نرى أن الترجمة السليمة مرتبطة بضبط المفهوم العلمي للمصطلح الأجنبي. يعرِّف دي سوسير (langue-اللغة) بقوله:

Mais qu’est-ce que la langue ? pour nous elle ne se confond pas avec le langage ; elle n’en est qu’une partie déterminée, essentielle, il est vrai. C’est à la fois un produit social de la faculté du langage et un ensemble de conventions nécessaire, adoptées par le corps social pour permettre l’exercice de cette faculté chez les individus27.

ولكن ما هي اللغة؟ بالنسبة إلينا لا يبنغي الخلط بين اللغة واللسان؛ فما هي إلا جزء محدد من اللسان، وعنصر مُهِمٌّ وصحيح. وهي في الوقت ذاته نتاج اجتماعي لملكة اللسان، ومجموعة من التواضعات الضرورية، والمعتمَدة من قِبَل الجسم الاجتماعي، وذلك للسماح بممارسة هذه الملكة عند الأفراد.

ثم يُعرِّف بعد ذلك مصطلح (langage-اللسان) بقوله:

Pris dans son tout, le langage est multiforme et hétéroclite ; à cheval sur plusieurs domaines, à la fois physique, physiologique et psychique, il appartient encore au domaine individuel et au domaine social ; il ne se laisse classer dans aucune catégorie des faits humains, parce qu’on ne sait comment dégager son unité28.

هنا دي سوسيريقصد باللسان أنه وبصورة عامةمُتعدِّد الأوجه وغير متجانس، ويمتد في عِدّة مجالات، في آنٍ واحد؛ منها الفزيائية، والفزيولوجية، والنفسية، وإنه لا يزال ينتمي إلى المجال الفردي والمجال الاجتماعي، وإنه لا يقع في أي فئة من الحقائق الإنسانية، لأننا لا نعرف كيف يمكنُنا أن نكتشفَ وَحْدتَه.

فاللغة (langue) في نظر دي سوسيرواقعة اجتماعية، وخصائصها ليست مجردة بل هي متواجدة بالفعل في عقول الناس، وبعبارة أخرى فهي مجموع كلي متكامل، وكامن ليس في عقل واحد؛ بل في عقول جميع الأفراد الناطقين بلسان معيَّن29.

إن اللغة مِلْكٌ اجتماعي ومجموعٌ من الوَحدات والقوانين التي تمثل نظامًا كُلِّيًّا لا يَتخلَّف عنه أي فرد من الجماعة اللغوية، ولا يمكن لأي أحد أن يحيد عنه.

أما الكلام (parole) فإنه فعل لغوي ملموس ومراقب، كما أنه خاضع لإرادة المتكلِّمين، وتكون مظاهره فردية ووجيزة للغاية، ولا توجد فيه إلا مجموع الأفعال الخاصة، كما في الصيغة التالية:

( 1+ 1’+1”+1”’….)1 .

ومن الناحية العلمية في الدراسة يمكن أن نصل إلى توصيف لغة جماعة ما، عندما نأخذ بعين الاعتبار عددًا كبيرا من مظاهر كلام الأفراد30.

ودَعُونا ننتقل إلى تعريف ابن خلدون العلمي الدقيق للغة الذي سبق دي سوسيرفي تعريفه للغة؛ حيث يقول: « اعلم أنّ اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فِعلٌ لساني ناشئ عن القصد لإفادة الكلام، فلا بُدَّ أن تصير ملكةً مُتقرّرةً في العضو الفاعل لها وهو اللسان، وهو في كل أمَّةٍ بحسَب اصطلاحاتهم»31. وهذا المخطط البياني يوضح مفهوم ابن خلدون لمصطلح اللغـة:

يعتبر ابن خلدون أن الكلامَ (عبارة المتكلم) هو الفعلُ الـمُنجَز من اللغة، وهو ظاهرة فردية ينجزها المتكلم لغرض التواصل وتأدية المقصود والإبانة عمّا في النفس (إفادة الكلام)، وهذا المفهوم لا يختلف كثيرا عمّا توصل إليه دي سوسيرفي تعريفه للكلام (parole). فابن خلدون يَنزِع بهذا المفهوم إلى اعتبار أن اللغةَ شيءٌ مجرَّدٌ وعامٌّ، وأنَّ اللسانَ خاص بمجتمع من المجتمعات32. وبعبارة أخرى؛ فإن مفهوم اللغة عنده جمع بين الملكة المتقررة (القوانين العامة) في اللسان وبين عبارة المتكلم، وهو ما يعني أن مصطلح اللغة يدل على مفهوم شامل يجمع بين النظام اللغوي العام لجماعة ما وبين الإنجاز الخاص لمتكلم ما، وهذه النظرة الدقيقة لابن خلدون تتوافق ونظرةَ دي سوسيرفي مفهومه للغة (langue).

إن البحث العلمي يستوجب علينا ضبط مصطلحاتنا في أي علم من العلوم، مثل العلوم اللسانية، وذلك حتى نستبينَ أمرَنا في دراسة الإشكاليات والمسائل التي يطرحها التطور المعرفي والتراكم المعلوماتي، ولكي نصل إلى نتائج علمية مقبولة، وأكثرَ دِقةً وموضوعيةً، ولايتأتى ذلك إلا إذا مَلَكْنا زمامَ المفاهيم المصطلحية، وهذا يؤدي بدوره إلى تسهيل عملية التواصل العلمي بين الباحثين المختصين والمستعملين للمصطلحات في أيِّ ميدان من ميادين العلم والمعرفة؛ ولأن المصطلحات هي حقًّا مفاتيحُ العلوم.

المراجع والمصادر:

  • أسس تعلّم اللغة وتعليمها: ه.دوجلاس براون.ترجمة.د.عبده الراجحي.د. علي علي أحمد شعبان.دار النهضة العربية.بيروت.1994.

  • البيان والتبيين: الجاحظ. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. دار الفكر. بيروت.

  • التعريفات: الشريف الجرجاني. تحقيق: محمد صديق المنشاوي. دار الفضيلة.القاهرة.

  • تعليمية القواعد في ضوء المنهج التحويلي التوليدي: د.عبد القادر بن عسلة. ديوان المطبوعات الجامعية.

  • دراسات في اللسانيات التطبيقية حقل تعليمية اللغات: أحمد حساني. ديوان المطبوعات الجامعية. ط2.الجزائر. 2009.

  • دروس في علم المصطلح: د.بن أحمد بن علي. جامعة بشار.2004.

  • دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني. المكتبة العصرية.بيروت.2002.

  • الرسالة القشيرية: دار جوامع الكلم. القاهرة.

  • علم اللغة: د.محمود السعران. دار النهضة العربية. بيروت.

  • علم اللغة النفسي: صالح بلعيد. دار هومه. الجزائر.2008.

  • لسان العرب: ابن منظور. دار صادر.بيروت.

  • اللسانيات النشأة والتطور: أحمد مومن. ديان المطبوعات الجامعية.2007.

  • مباحث في اللسانيات: أحمد حساني. ديوان المطبوعات الجامعية. الجزائر.

  • مبادئ اللسانيات: أحمد محمد قدور. دار الفكر.ط2.بيروت.1999.

  • محاضرات في اللسانيات التاريخية والعامة: زوبير دراقي. ديوان المطبوعات الجامعية. الجزائر.2000.

  • المجاز وأثره في الدرس اللغوي: د.محمد بدري عبد الجليل. دار النهضة العربية.

  • مراتب النحويين: أبو الطيب اللغوي. تحقيــــــــق : محمد أبو الفضل إبراهيم.المكتبة العصرية بيروت.

  • المصطلح اللساني وتأسيس المفهوم: د.خليفة الميساوي. دار الأمان. ط1. الرباط. 2013.

  • المعجم التربوي: آيت مهدي. المركز الوطني للوثائق التربوية.الجزائر.2009.

  • معجم اللسانية: د.بسام بركة. منشورات جروسبرس.ط1.بيروت.1985.

  • معجم المصطلحات التربوية والنفسية: د.حسن .د.شحاتة زينب النجار.الدار المصرية اللبنانية.القاهرة.ط1. 2003.

  • المقدمة: ابن خلدون. دار القلم. بيروت.لبنان.

  • المنهجية العامة لترجمة المصطلحات وتوحيدها: محمد رشاد الحمزاوي. دار الغرب الإسلامي.ط1.بيروت لبنان.1986.

  • المنهل التربوي معجم موسوعي في المصطلحات و المفاهيم البيداغوجية والديداكتيكيةو السكولوجية: عبد الكريم غريب. الدار البيضاء.2006.


1 لسان العرب: ابن منظور. دار صادر. بيروت.مادة (صلح).

2 معجم اللسانية: د.بسام بركة. منشورات جروسبرس.ط1.بيروت.1985. ص201.

3 البيان والتبيين: الجاحظ. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. دار الفكر.1/140.

4 مراتب النحويين: أبو الطيب اللغوي. تحقيــــــــق : محمد أبو الفضل إبراهيم.المكتبة العصرية بيروت. ص 102. وينظر: المجاز وأثره في الدرس اللغوي: د.محمد بدري عبد الجليل. ص 58.

5 مراتب النحويين: ص 102.

6 علم اللغة: د.محمود السعران. دار النهضة العربية. بيروت. ص36.

7 المجاز وأثره في الدرس اللغوي: د.محمد بدري عبد الجليل. دار النهضة العربية.بيروت. ص 146.

8 دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني. المكتبة العصرية.بيروت.2002. ص 64 وما بعدها.

9 التعريفات: الشريف الجرجاني. تحقيق: محمد صدِّيق المنشاوي. دار الفضيلة. القاهرة. ص7.

10علم اللغة النفسي: صالح بلعيد . دار هومه. الجزائر.2008.ص89.

11تعليمية القواعد في ضوء المنهج التحويلي التوليدي: أ. عبد القادر بن عسلة.ديوان المطبوعات الجامعية. وهران. ص2.

12دراسات في اللسانيات التطبيقية حقل تعليمية اللغات: أحمد حساني. ديوان المطبوعات الجامعية. الجزائر. ط2. 2009. ص39.

13علم اللّغة النّفسي: صالح بلعيد.ص89.

14 أسس تعلّم اللغة وتعليمها: ه.دوجلاس براون.ترجمة.د.عبده الراجحي.د. علي علي أحمد شعبان.دار النهضة العربية.بيروت.1994.ص103.

15 المنهل التربوي معجم موسوعي في المصطلحات و المفاهيم البيداغوجية والديداكتيكيةو السكولوجية: أ.عبد الكريم غريب. الدار البيضاء.2006.ص692.

16 المنهل التربوي:ص20.

17 المنهل التربوي:ص887. ينظر: موسوعة المصطلحات التربوية:د.محمد السيد علي. دار المسيرة .عمان.ط1. 2011.ص85.ينظر: أسس تعلّم اللغة وتعليمها: ص104. ينظر: المعجم التربوي: آيت مهدي. المركز الوطني للوثائق التربوية.الجزائر.2009. ص130.

18 المنهل التربوي:ص888.

19 المنهل التربوي:ص874.ينظر . المعجم التربوي: آيت مهدي .ص129.

20 ينظر. معجم المصطلحات التربوية و النفسية:ص11.

21 المرجع نفسه: ص 10.

22 هناك مكتب تنسيق التعريب بالرباط تأسس عام 1961، وظيفته التنسيق في التعريب وتوحيد الجهود المصطلحية للمجامع لخدمة اللغة العربية.

23 المنهجية العامة لترجمة المصطلحات وتوحيدها: ص47.

24 المصطلح اللساني وتأسيس المفهوم: د.خليفة الميساوي. دار الأمان. ط1. الرباط. 2013. ص130.

25 ينظر: مباحث في اللسانيات: أحمد حساني. ديوان المطبوعات الجامعية. الجزائر. ص33. وأيضا: مبادئ اللسانيات: أحمد محمد قدور. دار الفكر.ط2. بيروت. 1999. ص 18.

26 ينظر: اللسانيات النشأة والتطور: أحمد مومن. ديان المطبوعات الجامعية.2007. ص123. وأيضا: محاضرات في اللسانيات التاريخية و0.العامة: زوبير دراقي.ديوان المطبوعات الجامعية.الجزائر.2000.

27 Cours de linguistique générale : Ferdinand de Saussure. Editions Talantikit.Bejaia.2014. page 25. Dictionnaire de la linguistique : Georges Mounin. 4 édition « Quadrige » France.2004.P 196.

28 Cours de linguistique générale : p 25.

29 Cours de linguistique générale : p 38.

30 ينظر: اللسانيات: أحمد مومن. ص124. أيضا: Cours de linguistique générale : p 38.

31 المقدمة: ابن خلدون. دار القلم. بيروت.لبنان. ص713.

32 ينظر: المصطلح اللساني وتأسيس المفهوم. ص164.