الباحث: إبراهيم دحمان
جامعة وهران01 أحمد بن بلة
ملخص: قد عرفت الشعرية أشكالا مختلفة، ولفتت انتباه النقاد على مرِّ العصور واختلاف الأزمان، وكان أول من أشار إليها أرسطو في كتابه (فن الشعر)، الذي نظَّرَ فيه للشعر والأدبية بعامة، وعدَّ هذا الكتاب المرجع الذي اعتمد عليه كل من جاء بعده، إن جميع الأساليب الشعرية تنتج من الانزياح، ومصطلح الانزياح له ما يماثله في التراث العربي القديم وهو العدول، وما الأسلوبية الغربية الحديثة إلا صورة باسم جديد للبلاغة العربية، فلم تأت الأسلوبية بشيء جديد أو ابتكار حديث إلا ما عُدَّ مصطلحا.
الكلمات المفتاحية: الشعرية – العربية – الغربية.
Abstract: It was the first to be mentioned by Aristotle in his book „The Art of Poetry“, which he considered for poetry and literature in general. This book promised the reference upon which all those who came after it were adopted. The poeticism is derived from displacement, and the term displacement has an equivalent in the ancient Arab heritage, which is the toad, and the modern Western stylistic only a picture in the name of a new Arabic eloquence, stylistic came nothing new or modern invention, but no longer a term
Keywords: poetic, Arabic theory, West theory
مقدمة
تُعدُّ اللغةُ من الظواهرِ الإنسانية الفريدة والمعقدة، ونالت اهتماماً كبير من لدن اللغويين والمفكرين، عبر مختلف الأزمنة، سعياً منهم لفهم أسرارها، وذلك لما لها من صلة بالملكة العقلية للإنسان، ولوظيفتها التواصلية بين بني البشر.
وقد تنوعت المناهج النقدية التي تطرقت لدراسة اللغة، كلٌ منها حسب الإجراءات التي اعتمدت عليها، والغاية التي تسعى الوصول إليها، ومن بين هذه المناهج :الشعرية. وفي هذا السياق موضوع بحثي معنونا بـ: الشعرية من المنظورين العربي والغربي دراسة في المصطلح والأصول. وهنا أقف على العناصر الأساسية المشكّلة للعنوان، لفهم مدلولاته ومعانيه اللغوية والاصطلاحية.
1- مفهوم المصطلح.
1-1 لغة:الشعرية مصطلَح مشتق من لفظ الشعر، وقد أضيفت إليها اللاحقة „ية“ للدّلالَة على ميدانٍ معرفيّ له صلةٌ بفنّ الشّعر، وتكاد تتفق المعاجم اللغوية حول تحديد مفهوم الشعر، إذ نجده في لسان العرب لابن منظور في شرحه لمادة (شعر) قوله: „شَعَرَ بِهِ، وشَعُر يشعُرُ شِعراً وشِعَرة ومَشعُورةٌ وشُعُورا، وشَعَرَه الأمرَ وأَشعَره بِه أَعلمهُ بِه، وأَعلمه إياه، والشِّعر منظومُ القولِ غلب عليه لِشَرفِه بالوزن والقافية„1، فالشعور بالشيء يعني الإحساس به، والعلم بحاله.
ويذكر صاحب معجم مقاييس اللغة: „(شعر) الشَّين والعَين والرَّاء أَصلان مَعروفَان، يَدلُ أَحَدهُمَا عَلى ثباتٍ وَالآخر عَلى علِمٍ وعَلَم، الشّعَار: الذي يَتنادى بِهِ القومُ في الحَرب لَيعرف بَعضُهم بَعضَا. وَالأصلُ قَولهم شَعرت بِالشَّيء إِذَا عَلمتَه وَفَطِنتَ له، وَليتَ شِعري أَيْ لَيتني عَلِمتُ. وسميَّ الشَّاعِرُ لأنه فطن لِمَا لا يَفطن لَه غَيرُه„2
وجاء في المعجم الوسيط: „شَعَر فُلان شِعرا: قال الشِّعر، ويقال شَعر لَه: قال له شِعراً . وبِه شعوراً: أَحَسَّ بِهِ وِعلم. شَعــــر فُـــــلان شعراً: اكتسب ملكة الشعر فـــَأَجَاده. تَشَـــــاعر: ادّعَــــى أَنَّهُ شـــــاعرٌ. الشَّـــــاعرُ قَـــــــائلُ الشعرِ.
الشعّر: كَلامٌ مَوزون مُقفى قَصدا„3، فالشعور في مجمله: الإحساس، والفطنة، والعلم.
هكذا يتجلى المعنى لمفهوم الشعرية من خلال وجهة النظر المعجمية؛ إذ يتعلق بالعلم والفطنة، والشعر هو الكلام النابع من وجدان الشاعر، المعبِّر عن أحاسيسه وعواطفه.
1-2 اصطلاحاً:
بعدما تطرقنا إلى التعريف اللغوي لمصطلح الشعرية، نتعرض لمعناه الاصطلاحي، ونبحث عن العلاقة بين المعنيين.
من المسلَّم به أنه قد تعددت المفاهيم حول الشعرية، ولا يوجد لها تعريفا قارَّا معيناً، بيدا أن الشعرية في مجملها تقوم بدراسة الخطاب الأدبي، وتبحث عن قيمه الفنية والجمالية، وعن السّمات التي تجعل منه خطاباً متميزاً عن الكلام العادي؛ بحيث إن „اللغة الشعرية تختلف، كما ينبغي أن يكون ذلك معروفاً لدى الناس، عن اللغة التي نحرص على أن تكون ثابتة المعنى، وهي التي نصطنعها في أغراضنا المختلفة„4، أو اللغة المعيار، وتقوم بدراسة ذلك الخطاب واستخلاص القيم الوجدانية التي يمكنها التأثير في السامع، وإيقاظ مشاعره.
والمتَتَبِع لمفهوم الشعرية يجد أنها تشير إلى علمين متمايزين في آن واحد؛ فتأتي الشعرية حيناً ويقصد بها دراسة علم الشعر، وخصائصه الجمالية، وكل ما يتعلق به، وذلك لما فيه من جمالية وغموض وقيمة بلاغية على حساب النثر، هذا من جهة، من جهة أخرى تأتي ليقصد بها دراسة كلاً من الشعر والنثر معاً، أو العمل الأدبي كيفما كان نوعه إذ „تتصرف دلالتها المفهومية إلى كل الأجناس الأدبية، فتسلط عليها بالمعالجة الإجرائية „5، فتقوم بدراسة المكونات الأدبية فيها، وتركز على الوظيفة الشعرية للنص بصفة خاصة فالشعرية تعنى باللغة التي تخترق المعيار.
إذاً الشعرية تبحث عن قوانين الخطاب الأدبي، وعن الخصائص المجردة التي تصنع فرادة العمل الأدبي، أي بصورة أخرى ما الذي يجعل من الرسالة اللغوية عملا أدبياً شعريا. ثم أخذت معنىً أوسع لتعني ذلك الإحساس الجمالي الخالص الناتج عن القصيدة أو عن نص أدبي، أي بعبارة أخرى قدرة العمل على إيقاظ المشاعر الجميلة وإثارة الدهشة، وخلق الحسن بالمفارقة والانزياح عن المألوف.
ومما سبق يتبن لنا أن مفهوم الشعريات بوصفها علماً يدرس الشعرية، يعرف مدلولها حركة مد وجزر، فيمتد ليشمل كل الرسائل اللفظية، ويتقلص عند البعض ليقتصر على الرسائل النوعية أي الشعر.
1-3 الوظيفة الشعرية: تقوم هذه الوظيفة بالاهتمام بالرسالة بشكل خاص، وهي موجودة في كل رسالة لغوية، غير أنها تتمظهر في الشعر بشكل كبير، و„كل رسالة مهما كانت تتضمن وظيفة أدبية، إلا أن هذه الوظيفة تختلف من نص إلى آخر„6، فالوظيفة الشعرية بجانب تلك الوظائف المختلفة موجودة في جميع الأقوال اللغوية.
إن اللغات الطبيعية تؤدي وظائف لغوية متنوعة ومتعددة حسب العنصر الوظيفي المتميز فيها أو الركن الاتصالي المهيمن، فالوظيفة المرجعية تتجلى بوضوح أكثر في النصوص التاريخية، كما أن الوظيفة التأثيرية تظهر في النصوص الخَطَابية، الأمر نفسه للوظيفة الشعرية؛ إذ تكثر في النصوص الشعرية، والمعبرة عن أحاسيس الكاتب ووجدانه، حيث „إن وظيفة اللغة الشعرية هي تصوير الوجدان الذي يفيض من العاطفة المتأججة للشاعر، فتمثُلُ هي أيضا متأجّجةً ذات عنفوان جائش، وُشْكانَ ما تتجسّد نسْجاً فنّيّا جميلا، يسحر المتلقّي ويبهرُه„7، وترتكز الرسالة التي تهيمن فيها هذه الوظيفة على الرسالة في حد ذاتها، وينبه رومان جاكبسون (jakobson Roman ) إلى أن هذه الوظيفة يجب التماسها في أشكال الرسالة اللفظية المختلفة وأنها لا تقتصر على الشعر لوحده، وتقوم هذه الوظيفة بإبراز قيمة الكلمات والأصوات وإعطائها قيمة مستقلة8. فالوظيفة الشعرية هي السمة التي تزين النص الأدبي، وتوضح الفروق بين النصوص من حيث القيم الجمالية فيها.
2- الشعرية في النقد الغربي:
-
في التراث الغربي– أرسطو–
يعتبر كتاب (فن الشعر) لأرسطو من أهم الكتب النقدية في مجال الشعرية، والذي كان له أثر على الدارسين من بعده عبر مختلف العصور، وذلك لما يطرحه فيه من أفكارٍ ونظريات تتعلق بالشعر؛ فهو يرى أن الشعر عبارة عن محاكاة حين قال: „شعر الملحمة والمأساة والملهاة والديثرامب9، وكذلك موسيقى الشبابة والقيثارة في أكثر خصائصها، كل هذه حين نشمله بالنظرة الكلية، تعد أنوع من المحاكاة„10، فيقوم الشاعر بتصوير الواقع أو الأشياء الجميلة للواقع في قَالب شعري بلغة تثير النفوس والعواطف، ومفهوم المحاكاة عموما هو „تمثيل أفعال الناس مابين خيّرة وشِّريرة، بحيث تكون مرتبة الأجزاء على نحو بعضها…والشِّعر الحق عند أرسطو يتجلى في المأساة والملحمة والملهاة„11. فالشاعر يقوم بإعادة رسم الواقع بأسلوبه، فالمحاكاة هنا تستدعي براعة الفنان وإبداعيته أو شاعريته، لأنه لا يقرر الحقيقة، وإنما يتخيل ليقول ما هو غير كائن في الواقع، ويرسم الواقع كما يجب أن يكون عليه، فيقدم للقارئ متعة فنية، وخلال هذا يقوم الشاعر أو الكاتب بما يسمى بعملية التطهير.
فالشاعر لا يقوم بنقل الواقع كما هو، بل يسعى إلى خلق عالم أفضل، أجمل من الواقع المعاش، ويقول أرسطو في موضع آخر عن المحاكاة „يجب أن نسلك طريقة الرسامين المَهرة، الذين إذا أرادوا تصوير الأصل رسموا أشكالا أجمل وإن كانت تشابه الصور الأصلية، كذلك الحال في الشاعر إذا حاكى أناساً شرسين أو جبناء أو فيهم نقيصة من هذا النوع في أخلاقهم فيجب عليه أن يجعل منهم أمجادا ممتازين„12، فالمحاكاة عنده تختلف باختلاف الفنون؛ فهي في الرسم مغايرة لما هي عليه في النقش، أو الموسيقى، أو الشعر، والمحاكاة تشمل جميع الفنون الجميلة وكل الأشياء الموجودة في العالم الواقعي وبواسطتها يتمم الإنسان النقص الموجود في الواقع الحسي.
ففكر أرسطو كله قائم على مبدأ المحاكاة، والشعرية التي أتى بها أوسع وأعم من الشعرية الحديثة المقتصرة على الشعر والأدب، لأن “ فكرة المحاكاة هي قطب الرّحى في تحليل أرسطو، ومركز اهتمامه بالعملية الإبداعية لا تتمثل في الشعر وحده، بل هي جوهر الفنون كافة„13، مما يبيّن أن الشعرية الحديثة أخذت حيزاً محدوداً، أقل مما كانت تشير عليه اللفظة من قبل عند أرسطو.
ومن هنا يمكن القول أن كتاب „فن الشعر“ لأرسطو هو المحاولة الأولى لتنظير الأدب، والقاعدة الأساسية التي أعطت استقلالاً وحدودا للنص الأدبي، والأدب هو جزء من العملية الإبداعية للإنسان.
-
عند الغــــربيين المحدثين:
-
رومان جاكبسون (jakobson Roman ):
إن رؤية جاكبسون للشعرية متأثرة باللسانيات، وتبحث عن الخصائص التي يتميز بها الخطاب الأدبي؛ فهي „تتعلق بمسائل ذات بنية لغوية، تماماً كما يهتم تحليل الرسم بالبنيات التصويرية، ولما كانت الألسنية هي العلم العام الشامل للبنيات اللغوية، كان بالإمكان اعتبار الشعرية جزءاً لا يتجزأ من الألسنية„14، ويتساءل جاكبسون عن الشيء الذي يجعل من رسالة كلامية عملاً فنياً، وبحث في الأدبية والسمات المميزة للأدب. فالشعرية جزء من اللسانيات، غايتها معالجة الوظيفة الشعرية والبحث في علاقتها بالوظائف اللغوية الأخرى.
كما خصّ لموضوع الشعرية مقالاً له بعنوان (ما الشعر؟) الذي يقول فيه „أن محتوى مفهوم الشعر غير ثابت وهو يتغير مع الزمن، إلا أن الوظيفة الشعرية عنصر فريد لا يمكن اختزاله بشكل ميكانيكي إلى عناصر أخرى، هذا العنصر ينبغي تعريته والكشف عن استقلاله، كما هي عارية ومستقلة الأدوات التقنية للّوحات التكعيبيّة على سبيل المثال„15. يكشف هذا القول بأن الشعر لا يبقى دائما ضيق الأطر، محدود الأفق، تهيكله عناصر ثابتة، بل على العكس من ذلك؛ هو دائم التغيير والتّحول، بدليل ما كانت عليه الشعرية القديمة، وما وصلت إليه الشعرية الحديثة من تجاوز لبعض الخصائص التي اتصف بها، أما الوظيفة الشعرية عنده فهي اللبنة الأساسية التي يقوم عليها النص الأدبي ولا ينبغي تجاوزها16.
ومن العناصر الجمالية التي تحقق للنص الإبداعي شعريته – عند جاكبسون– فاعلية اللغة، وجمالية الغموض، ومقارنة القافية، ففي ما يخص اللغة الشعرية نجده يركز على خُلُوها من الشوائب التي يمكن أن تتسبب في إعاقة مسار الشعرية، حيث يرى أن كل „بحث في مجال الشعرية يفترض معرفة أولية بالدراسة العلمية للغة، ذلك لأن الشعر فن لفظي، فهو يستلزم قبل كل شيء استعمالا خاصا للغة„17، لأن اللغة عنده ليست مجرد رصد لكلمات لها دوال ومدلولات يستعملها المتلقي للتعبير عن معنى معين، بقدر ما هي دراسة علمية يفترض على صاحبها معرفةً خاصّة بمفرداتها حتى لا يقع في الخطأ، فالتحكم في اللغة يعني ملامسة الشعرية في جوهرها18.
وقد قام جاكبسون بوضع مخطط للعملية الاتصالية، ورأى أنها تتكون من ستة عناصر أساسية هي: المرسل، والمرسل إليه، والرسالة، والشفرة، والقناة، والمرجع، وأن كل عنصر من هذه العناصر ينتج عنه وظيفة معينة، وبالتالي هناك ستة وظائف لغوية مقابل ستة عناصر أساسية.
عناصر العملية الاتصالية الوظائف اللغوية
المرسل الانفعالية
المرسل إليه التأثيرية
الرسالة الشعرية
القناة الانتباهية
المرجع المرجعية
الشفرة الميثالغوية
-
الوظائف اللغوية: إن الوظائف اللغوية من السمات المميزة لكل رسالة لغوية، وتنتج من خلال تأدية الأفراد للعملية التواصلية، وتختلف هيمنة أي وظيفة على حساب الوظائف الأخرى بحسب طبيعة موضوع الرسالة وهي:
-
الوظيفة الإنفعالية: يحققها العنصر الباث للرسالة، عن طريق التعبير عن عواطفه وأحاسيسه، لذا فهي مهيمنة في النصوص التي تعبر عن الوجدان والعاطفة.
-
الوظيفة التأثيرية: وتقوم على عنصر المرسل إليه، غرضها إقناع الطرف المستقبل للرسالة بحثه بالقيام بعمل ما، أو نهيه عن الإتيان به، وكذا لإحداث التجاوب معه، فنجدها في الخطب والنصائح والإرشادات.
-
الوظيفة الشعرية: تقصر على الرسالة في حد ذاتها، من خلال ما تتوفر عليه من جمال لغوي وحسن أسلوبها، ولها علاقة كبيرة بالنصوص الشعرية.
-
الوظيفة الانتباهية: تظهر من خلال تلك الكلمات التي يوظفها المتكلم لغرض إقامة التواصل بين طرفي العملية الاتصالية، وشد انتباه المستقبل حتى لا يغفل عن الاستماع أو الشرود عن الرسالة، وتكثر في عمليات التواصل السمعية.
-
الوظيفة المرجعية: وهي التي تحيل من خلال لغة الرسالة إلى الفضاء الخارجي للنص، فيستحضر المستمع للرسالة عالم الموجودات، ونلتمسها بكثرة في النصوص التاريخية والإخبارية.
-
الوظيفة الميثالغوية: تعتني باللغة المشتركة بين طرفي العملية التواصلية، فتقوم بشرح مفرداتها، وتستعمل بكثرة في النصوص النقدية.
وبذلك فقد أسس جاكبسون شعريته على أسس وصفية وعلمية موضوعية، من خلال تركيزه على الأدبية والقيمة المهيمنة، والعناصر البنوية التي تميز جنسا أدبياً عن الآخر. فالرسالة عنده ليست كلاما يشير إلى أشياء خارجية موجودة في العالم الحسي بل هي منطوية على ذاتها مستقلة بمكوناتها،19 ومن ثم كان يقارن بين لغة الشعر ولغة النثر العادية، في ضوء مقاربة بنوية لسانية، وكان هدفه الأساسي هو البحث عن أدبية النص.
-
جون كوهين Jean Cohen:
إن الشعرية عند كوهين انزياح عن المعيار، وموضوعها الشعر، „فالشعرية علم موضوعه الشعر„20. ويلغي كوهين من دراسته كل الأشكال التي تحتوي على جزء من الشعرية، لذا فهو يفصل بين الشعر والنثر، ويرى أن الشعر انزياحا عن النثر، وخروجا عن الكلام العادي، لذا فهي مقتصرة عليه لوحده، وليس من مجال دراستها النصوص النثرية.
فالشاعر عند كوهين لا يتحدّث كما يتحدث الناس، بل لغته غير عادية ومخالفة للغة غيره، وهذا ما يجعله يملك أسلوباً فريدا. ومن هذا المنطلق تقوم الأسلوبية عند كوهين بالبحث عن هذه اللغة الشعرية، واستنباط خصائصها الفريدة والمميزة، فهي لغة تتسم بالغموض، ومن الصعب معرفة المعيار الذي انزاحت عنه، ويسميها كوهين باللغة العليا21، فشعريته شعرية انزياحية.
إن الشعرية هي دراسةٌ للغة الشعر، والبحث عن خصائصه الفريدة التي تولدت فيه بعد انزياحه عن النثر، و„نظرة الانزياح تتجلى في خرق الشعر لقانون اللغة، وهو الخرق الذي يمنح النص الشعري شعريته الأسلوبية„22، إلا أن هذا القول يوقعنا في لبس؛ حيث نفهم من ذلك أن الشعر يوضع كمقابل للنثر، ويعتبر أن النثر كله معيار، والشعر انزياح عن هذا المعيار، مع العلم أن كلاً من النثر والشعر يوجد فيهما شعرية وأسلوبية خاصة.
-
تزفان تودوروف Tzvetan Todorov:
تبحث شعرية تودوروف عن الأدبية في الخطاب الأدبي، وموضوع دراستها الشعر والنثر معا، بحيث تسعى شعرية (تودوروف) إلى البحث عن „أدبية الخطاب الأدبي بعيدا عن الخطابات الأخرى ذات الطابع الفلسفي والتاريخي، ذلك أن العلاقة بين الشعرية والعلوم الأخرى – التي لها أن تتخذ العمل الأدبي موضوعاً – هي علاقة تنافر„23، فتقتصر الشعرية على أدبية العمل الأدبي وخصائصه التي يمكنها أن تميزه عن غيره.
وأهم ما يلاحظ على شعرية تودوروف ذلك السؤال الذي صاغه بقوله ما الأدب؟ يقول: „هذا هو أول سؤال جوهري يطرح على شعرية داخلية، أي التي تهتم بالخصائص البنوية المجردة لهذا النشاط القولي القديم„24، بحيث يعد الأدب نظاما ثانويا أدواته اللغة الموجودة فيه.
فالشعرية من المنظور الغربي هي دراسة البنية اللغوية للعمل الأدبي بطرق لسانية، مع التمييز بين لغة الشعر ولغة النثر، ومحاولة الكشف عن طرق الانزياح وأساليبه المتعددة، والعناية باللغة في حد ذاتها.
3- الشعرية في النقد العربي:
-
في التراث النقدي:
الشعرية بمفهومها الحديث علم مستورد من الدراسات الغربية، وإن كانت مسمياته أو ما يماثله متجذرة في الثقافة العربية القديمة، ودراسات الأوائل، بحيث أن كلمة الشعرية بالمصدر الصناعي، لم ترد في تراثنا النقدي، إلا „أن هذا الغياب في تردد مصطلح الشعرية في المعجم، أو المؤلفات القديمة لا يعني أبداً انعدام مدلوله بشكل أو بآخر، ولعل أكثر المصطلحات قربا من مصطلح الشعرية هو مصطلح النظم„25، كما كثر التعامل مع هذا المصطلح على صيغة النسب كقولهم المعاني الشعرية ،الأبيات الشعرية …
وقد تطّرق إليها اللغويون والنقاد والبلاغيون، نذكر من ذلك على سبيل المثال:
ابن سلام الجمحي في كتابه النقدي (طبقات فحول الشعراء ) حيث تطرق إلى مفهوم الشعر، وكيفية معرفة الناقد لصحيح الشعر من منحوله، فنجده قد عّرف الشعر بأنه صناعة كغيره من الصناعات والحرف التي يقوم الإنسان بتعلمها وإتقانها، فإن „للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلوم والصناعات„26 يقتضي ذلك أن تكون فيه مراتب من حيث الإجادة والاحترافية، „و مما يلفت النظر في رأيه جعله الشعر صناعة وأن هذه الصناعة لا تختلف عن أي صناعة من الصناعات الجميلة الماثلة في الفنون السمعية البصرية„27، فكما أن لجميع الصناعات قوانين تسير على وفقها وقواعد تحكمها، الأمر نفسه بالنسبة للشعر، إذ يستطيع الناقد أن يميز جزل الشعر من رديئه، وصحيحه من منحوله.
كما أنّ الجاحظ معروف باهتمامه الكبير بالألفاظ، وانتصاره لها على حساب المعاني، المعدود من أصحاب الصنعة اللفظية، له وجهة خاصة في الشعر؛ إذ يرى أن الحسن والجمال والتفاوت بين كلام الناس راجع إلى حسن تأليفهم للكلام من عدمه، الأمر نفسه للشعراء، فجميل الشعر ما حسن سبكه وانتظامه، واختيرت ألفاظه.
ويرى أن المعاني معلومة ومتعارف عليها لدى الجميع، وإنما الشأن „في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج … فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير„28، فالشاعر الفحل هو من يقوم بانتقاء اللغة ويحسن رصفها؛ بحيث لغة الشعر تختلف عن لغة النثر، ما يجعلها تؤثر في المتلقي، وذلك لما تحمله من شحن إيحائية، فتبعث فيه الإحساس بالجمال الأدبي29.
ومن بين الجهود التي جاءت في هذا المجال مفهوم قدامة بن جعفر للشعر في كتابه نقد الشعر، فقد حدّه بأنه: „قولٌ موزونٌ مقفى دَالٌ عَلى مَعنى„30. وبهذا أقام أربعة شروط يستلزم توافرها في أي قول حتى يغدوَ شعراً. فالقول هو الكلام الصادر عن الإنسان من جهازه النطقي، والموزون بأن يكون على وزن أحد البحور الخليلية الستة عشر، لا يخرج عنها ولا يحيد، والمقفى هو الذي له قافية موحدة في أخر أبياته، فتتررد في نهاية عجز البيت، ما يعطي جرساً ونغماً واحدا على طول القصيدة، دالٌ على معنى يخرج من هذا الكلام الفارغ والهذيان بأن يشمل البيت على معنىً يشير إليه، ويُعدُّ عمله هذا إضافةَ نقدية في الشعرية العربية، يحكم بها النقاد على الشعر، „فلعله الوحيد من بين القدماء الذي اجتهد في تفصيل الحديث عن قضايا الشعرية بمعاظم مكوناتها التي كانت سائدة على عهده، وفيما قبل عهده„31، وبعده ظهرت العديد من الاتجاهات والآراء النقدية في مجال الشعر، حددت شروطا جديدة لتعريف الشعر وحدّه، ومن أهمها مبدأ القصديّة، أي النية التي يتعمدها الشاعر في أنه ينظم شعرا لا قولا مقفى، أو تراكيبا مسجوعةً وحسب.
وبهذا نجد أن موضوعات الشعرية العربية عند القدامى تمحورت حول مسائل محددة منها: قضية الفصاحة والجزالة، وكذا مسألة الطبع والصنعة، ومشكلة السرقات الأدبية، وما يسمى بعمود الشعر، وقضية اللفظ والمعنى.
-
عند المحدثين: أما عن الجهود العربية الحديثة في هذا المجال فقد اختلفت هي الأخرى وتنوعت، وأشير هنا إلى بعض منها فأذكر:
-
– أدونيس:
كان أدونيس من النّقاد العرب الأكثر دراسة للشعرية، يشهد له تأليفه الغزير في ذلك، وحاول في دراساته أن يزاوج بين النظريات اللسانية الغربية الحديثة، وما توصلت إليه من نتائج، وبين التراث والأعمال العربية القديمة، فهو يرى أن القرآن الكريم كان دافعا للعرب نحو الكتابة، والخوض في مختلف الدراسات اللغوية بعامة.
وتعتبر الدراسة الشعرية من نتاج تلك الدراسات المختلفة التي توصلوا إليها إذ يقول:“هكذا كان النص القرآني في تحولٍ جذريٍ وشاملٍ: به وفيه تأسَّسَتِ النقلةُ من الشفويةِ إلى الكتابة„32. فبعد الرواية الشفوية التي كان العرب يتناقلون بها أشعارهم وأخبارهم، حتى القرن الأول من الهجرة، لجأوا إلى فعل التدوين والتأليف بدءاً بكتابة القران الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، وكذا تفسير القرآن، وصولاً إلى علوم اللغة المختلفة عامة والشعر والدراسات الأدبية بخاصة.
وقد انبهر العرب في نظم القرآن وتأليفه، وبلاغته التي عجز الشعر عن مجاراته فيها، ما جعلهم يعكفون على تفسيره ودراسته، قصد فهم أسرار الإعجاز فيه، و„يخلص أدونيس إلى أن جذور الحداثة الشعرية العربية بخاصة والحداثة الكتابية بعامة كامنة في النص القرآني„33، إذ أثّرت الدراسات القرآنية المختلفة في توجيه الرؤيا للشعر، وجعله يَنحوَ نَحو شعريةٍ جديدة، وطريقة مبتدعة في الكتابة، من عمود الشعر والطبع والسليقة، إلى التشطير34 والتخميس35 والزخرفة اللفظية والتنميق.
-
– كمال أبو ديب:
قدّم كمال أبو ديب موقفه من الشعرية في كتابه (في الشعرية)، إذ الشعرية– بحسب رأيه– تظهر في النص حين يخرج من الاستعمال العادي إلى استعمال مجازي، فــ„الشعرية ليست خصيصة في الأشياء ذاتها، بل في تموضع الأشياء في فضاء من العلاقات„36، فلا ميزة للكلمة بانفرادها، بل تكمن قيمتها باتحادها مع غيرها لتشكل نسيجا لغويا مفيدا.
فالقيمة الجمالية للغة تأتي حينما تنزاح عن استعمالها الحقيقي المألوف الاتصالي، إلى استعمالات جديدة بلاغية، هذا لأن „استخدام الكلمات بأوضاعها القاموسية المتجددة لا ينتج الشعرية، بل ينتجها الخروج بالكلمات عن طبيعتها الراسخة إلى طبيعة جديدة، وهذا الخروج هو خلق لما أسميه الفجوة :مسافة التوتر„37، فاللغة الشعرية هي التي تحدد فرادة العمل الأدبي، وتَمَيز طريقة كل أديب عن آخر.
-
– جمال الدين بن الشيخ:
لقد عرض رؤيته حول الشعرية في كتابه (الشعرية العربية)، حيث تطّرق لمفهوم الشعرية عند النقاد القدامى، ورؤيتهم للشعر، بغية الوصول إلى المعايير التي تخدمه فنياً، و„قد سعى منذ البداية إلى البحث عن طرق الإبداع التي تشكل بنية القصيدة، وهذا الإبداع عنده ينبغي له أن يتوفر على منهجٍ وأدوات، التي من شأنها أن تصفه بالعلمية الموضوعية المطلوبة„38، فالمحيط الخارجي للشاعر يعمل على إكسابه ثقافة تعمل على بلورة عالمه الثقافي.
كما تحدث عن أنماط الإبداع التي من شأنها أن تحقق للنص الشعري شعريته، والتي حصرها في الارتجال الذي يمنح صاحبه سمواً وإعجابا.
الخاتمة:
الشعرية هي المعيار الذي من خلاله يتم تصنيف الكتابة، والرقي من مستوى الذوق اللغوي، وكان هذا من اهتمام النقاد قديما وحديثاً. تختلف رؤية النقاد لمعايير الشعرية، إلا أنها تهدف إلى الكشف عن الخصائص التي تجعل من الشعر شعراً ومن النثر نثراً.
الشعرية كمصطلح هو جديد على الساحة العربية، إلا أنه قديم من حيث الدراسة والبحث، لهذا لها عند العلماء العرب القدامى تسميات مختلفة، وتمحورت مواضيعها حول الفصاحة والجزالة. تقوم الشعرية على مبدأ الانزياح والخروج عن المألوف عن المعتاد والتمايز بالفرادة، وهو ما يجعل كل كاتب يختلف عن كاتب آخر.
الشعرية من المنظور الغربي هي دراسة البنية اللغوية للعمل الأدبي بطرق لسانية، مع التمييز بين لغة الشعر ولغة النثر، ومحاولة الكشف عن طرق الانزياح وأساليبه المتعددة، والعناية باللغة في حد ذاتها، أما الشعرية العربية عند القدامى تمحورت حول مسائل محددة منها: قضية الفصاحة والجزالة، وكذا مسألة الطبع والصنعة، ومشكلة السرقات الأدبية، وما يسمى بعمود الشعر، وقضية اللفظ والمعنى.
قائمة المصادر والمراجع
1- لسان العرب، ابن منظور، تحقيق عبد الله علي الكبير، محمد أحمد، هاشم محمد الشاذلي، دار المعارف القاهرة ط1/1981، ص 2273.
2– معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ج3، ص194.
3– المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، مكتبة الشروق الدولية جمهورية مصر العربية ط4/2004، ص 484.
4– قضايا الشعريات، عبد الملك مرتاض، منشورات دار القدس العربي الجزائر ط1/2009، ص121.
5– المرجع السابق، ص18.
6– الحقيقة الشعرية على ضوء المناهج النقدية المعاصرة والنظريات الشعرية، بشير تاوريرت، عالم الكتب الحديث الأردن ط1/ 2010، ص297.
7 – قضايا الشعريات، عبد الملك مرتاض، ص113.
8– يراجع اللسانيات ونظرية التواصل، عبد القادر الغزالي، دار الحوار دمشق سوريا ط1/2003، ص50.
9 – هي فرق إنشادية ترتّل قصيدة أو صلاة إنشادية، وهي جزئا من المسرح الإغريقي، تشمل ترتيلة نظمية دينية تصحبها رقصات غنائية.
10– فن الشعر، أرسطو طاليس، ترجمة وتحقيق عبد الرحمان بدوي، دار الثقافة بيروت لبنان، ص 38.
11– النقد الأدبي الحديث، محمد غنيمي هلال، نهضة مصر للطباعة والنشر مصر ط6/2005، ص 50.
12– فن الشعر، أرسطو طاليس، ص 43-44.
13 – بحوث في الشعريات، أحمد الجوة، مطبعة التفسير الفني صفاقس تونس 2004، ص119.
14 – النظرية الألسنية عند رومان جاكبسون، فاطمة الطبال بركة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع الجزائر ط1/1993، ص 178.
15 – قضايا الشعرية، رومان جاكبسون، ترجمة محمد الوالي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر المغرب ط1/1986، ص19.
16 – يراجع شعرية القصيدة المعاصرة، مديحة خالد، رسالة ماجستير، جامعة البويرة 2013، ص 46.
17- قضايا الشعرية، رومان جاكبسون، ص77.
18 – يراجع شعرية القصيدة المعاصرة، مديحة خالد، ص 49.
19- يراجع الحقيقة الشعرية، بشير تاوريرت، ص299.
20- بنية اللغة الشعرية، جون كوهين، ترجمة محمد الوالي ومبارك حنون، دار توبقال للنشر المغرب ط 1/1986، ص09.
21– يراجع الحقيقة الشعرية، بشير تاوريرت، ص309.
22 – المرجع السابق، ص309.
23– الشعرية بين تعدد المصطلح واضطراب المفهوم، خولة بن مبروك، مجلة المخبر، أبحاث في اللغة والأدب الجزائري، جامعة بسكرة، ص368.
24 – الشعرية، تودوروف، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، مطبعة سبو المغرب ط1، ص31.
25 – الحقيقة الشعرية، بشير تاوريرت، ص280.
26 – طبقات فحول الشعراء، ابن سلام الجمحي، قراءة وشرح :محمود شاكر، مطبعة المدني القاهرة، د ط، دت، ص5.
27 – قضايا الشعريات، عبد الملك مرتاض، ص23.
28 – الحيوان، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجليل بيروت 1996، ج2 ص131.
29 – يراجع قضايا الشعريات، عبد الملك مرتاض، ص25.
30– نقد الشعر، أبو الفرج قدامة بن جعفر، تحقيق كمال مصطفى، مكتبة الخانجي، مكتبة النثنى بغداد ط1/ 1963، ص15.
31 – قضايا الشعريات، عبد الملك مرتاض، ص42.
32 – الشعرية العربية، أدونيس، دار الآداب بيروت ط1/2000، ص 30.
33 – مصطلح الشعرية عند محمد بنيس، أوبيرة هدى، رسالة ماجستير، ص30.
34 – هو أن يعمد الشاعر إلى أبيات مشهورة لغيره، فيقسم أبياتها إلى شطرين يضيف إلى كل منهما شطرا من عنده.
35- هو أن يأخذ االشاعر بيتا لسواه، فيجعل صدره بعد ثلاثة أشطر ملائمة له.
36– في الشعرية، كمال أبوديب، مطبعة الأبحاث العربية لبنان ط1، ص 58.
37– المرجع السابق، ص 32.
38– شعرية القصيدة المعاصرة، مديحة خالد، ص52.