D. BOUTERFAYA Mostefa
Université de Tiaret (Algérie)
الملخص باللغة العربية:
لقد تحقّق معنى الحضور والغياب في عمليتي جمالية التّلقّي و فعل القراءة لما سلكت الكتابة شِرعتها إلى العمل الأدبي، وتحوّلت عملية التّأثير من حاسّة السّمع ووقعه إلى ثقافة البصر، وأصبح القارىء يتأوّل المقروء حسب ما يكنزه من خبرة فنّية وما يتمتّع به من ذكاء جماليّ.
وعلى الرّغم من أنّ بعض الدراسات في تناولها للعملية الإبداعية تسعى جاهدة إلى استدراج الماضي لتجديد الحاضر مُنكِرة فكرة التّداخل والتّفاعل بين النّصوص ضمن حركية الوعي الاجتهادي الحداثي، إلاّ أنّ أيّ نصّ أدبيّ مهما أُوتي من ابتعاد عن التّقليد، يظلّ محاكيا لما سبقه، وأنّ المبدع لا يمكنه إلاّ أن يكون ناسخا لفعل هو مُتقدّم عليه.
يُحاول هذا البحث، تقديم قراءة أُخرى، تنضاف للقراءات السّابقة وربّما تكتمل بها، تتّصل بتعالق النصوص، تجمع بين الاسترجاع والاستشراف، في ضوء منظور حداثي لا يُغيّب الموروث النّقدي العربيّ.
الكلمات المفتاحية: النّص الأدبي ; الكتابة ; التّلقّي ; فعل القراءة ; تحويل المعنى ; التّعالق النّصّي ; التّناص ; التضمين ; الموروث النّقدي ; الحداثة.
الملخص باللغة الإنجليزية:
ABSTRACT :
(The Textual Link and the Realization of the Reception Process in the Literary Impact)
Although some studies on the literary process attempt to attract the past to renew the present, while evoking the sense of presence and absence in practice of aesthetic reception and the act of reading; the literary text, because of its distance in time, remains a simulation of what precedes.
By this approach, we try, not to sit on a judgment, but to suggest another reading based on foresight, in the light of modern reading and that does not exclude the Arab heritage.
Keywords: Literary text; reading ; writing; transformation of meaning; intertextuality ; textual innuendo; critical heritage; modern vision.
الملخص باللغة الفرنسية:
Résumé :
(Le Lien textuel et la Réalisation du Processus de la Réception dans l’Impact Littéraire)
Bien que certaines études sur le processus littéraire tente d’attirer le passé pour renouveler le présent, tout en évoquant le sens de la présence et de l’absence dans la pratique de la réception esthétique et l’acte de lecture ; le texte littéraire, de part sa distance dans le temps, reste une simulation de ce qui précède.
Par cette approche, nous essayons, non pas de s’asseoir sur un jugement, mais de suggérer une autre lecture basée sur la prévoyance, à la lumière de la lecture moderne et qui n’exclu pas le patrimoine arabe.
Mots-Clés : Texte littéraire ; lecture ; écriture ; transformation du sens ; intertextualité ; insinuation textuelle ; patrimoine critique ; vision moderne.
تقديم
يكاد يُجمع معظم الدّارسين في العلوم الإنسانية عموما ومجالات اللّغة والأدب تحديدا، (وعلى الخصوص ميخائيل باختين) على أنّ الخطاب الوحيد الّذي يمكن اعتباره بكوريا بحكم براءته ونقائه لعدم تداخله أو تفاعله مع خطابات سابقة، هو كلام آدم(عليه السّلام).
لقد منح الله عزّ وجلّ آدم „عليه السّلام “ سرّ القدرة على الرّمز بالأسماء للأشخاص والأشياء بألفاظ منطوقة دفعا للمشقة في التفاهم والتواصل والتعاون بين البشر، وهي قدرة ذات قيمة جليلة في حياة الإنسان على الأرض، يقول تعالى: “ قال يا ءَادَمُ أنْبِئْهُم بِأسمائِهِم فلَمَّا أنْبأهُمْ بِأسمائِهِمْ قال أَلَمْ أقُل لَكُمْ إِنِّي أَعْلمُ غيْبَ السّمواتِ والأرْضِ وأعْلمُ ما تُبْدون وما كُنتُمْ تَكْتُمُون„i.
اِنطلاقا من هذا المعنى؛ فإنّ أيّ عمل كلاميّ هو نتيجة تراكمات بشرية، ينجرّ عنه عدم الأخذ بفكرة صفاء الإبداع أو حِياده، فالمعجم اللّغوي والمضامين والإيقاعات والصّور، في تحصيلاتها المتعدّدة وانشطاراتها المتنوّعة تخضع إلى فعل التّناسل، ولا يُستثنى من ذلك إلاّ كلام اللّه بحكم قُدسيته وتعاليه على كلام البشر.
إنّ التّسليم بهذا التّفكير وبأسلوب المخالفة يترتّب عنه وبطريقة انعكاسية، أنّ كلّ فعل كلاميّ لاحق إنّما هو نتاج كلام سابق؛ لذا فإنّ أيّ مبدع وفي كلّ عمل فنّيّ، لا يمكن له أن يخلق نصّه من العدم، وإنّما هو يقلّد أعمالا معرفية وثقافية، ويخرجها من جديد في خطابه بعدما شكّلت وعيه الإبداعي، ذلك أنّ كلّ رسالة لا بدّ لها أن تستند إلى شفرة مشتركة بين الباثّ والمتقبِّل، وهو اشتراك، إمّا أن يكون كليّا وإمّا أن يكون جزئيا. ومن ثمّة فإنّ المرسِل لا يعدو أن يكون مركِّبا لهذه الشفرة في عملية بثّ الرّسالة، وإنّ المرسَل إليه ما هو إلاّ مفكّك لما ركّبه الباثّ قبلهii، „فالنّص حسب المنظور التّقويضي، لا قيمة له بدون القارىء ودلالة النّص هي الّتي يحدّدها القارىء، لا النّص„iii.
لقد استقرّت الدّراسة في ظلّ المناهج السّياقية، على أنّ المعنى حاضر في قصدية المؤلِّف، وكلّ قراءة تخضع لهذا السّلطان وتحتكم بخبرته وثقافته ومزاجه، وفهم الإبداع لا يُلتمس إلاّ من خلال فهم المبدع والإلمام بشظايا المعلومات التّاريخيةiv، في حين أنّ المناهج النّسقية اعتبرت أنّ المعنى قائم في العلاقات الكائنة بين عناصره ومستقل عن سياقه الخارجي.
ونتيجة لهذا التّقابل في التّوجّهين، سوف تُعيد مناهج ما بعد البنيوية الحقّ المسلوب للقارىء وتؤكّد على أنّ المعنى مستوحى من التّلقّي وكائن في القراءة. وبفعل هذا المنحى الجديد، انتقلت السّلطة من المؤلِّف والنّص إلى القارىء، وأصبح تأويل المعنى ملكا له.
نعم تحوّلت الرّسالة بمرور الزّمن وتطوّره وتشعّبه من شفرة مسموعة إلى شفرة مكتوبة، وإذا كان حضور الشّاعر في المرحلة الأولى أكيدا ومؤثّرا في عملية التّقبل بل وموجّها للسّامع بما يوظّفه من وسائل لغوية وما يستعين به من أدوات فوق لغوية إلى درجة بسط سلطته على المتلقّي والتّحكّم في مخياله وسلب حريّته لانجذابه اللاّواعي؛ فإنّ المبدع في مرحلة التّدوين أصبح مغيّبا، وبفعل المسافة الزّمنية الّتي أصبحت تفصل بينه وبين قصيدته، تخلّص القارىء من تبعية مفروضة واستردّ حضوره المبعد وحريته المسلوبة وعاد إليه وعيه ونشاطه، فراح يواجه النّص الفنّي في بنيته وهندسته وشكله، بل وأصبح يعيد بناءه طبقا لتصوّره دون الاعتبار بالعوامل الخارجية؛ فانتقل من صفة الفضولي السّلبي إلى ميزة الفضولي الإيجابي، ومن الاستهلاك المقيت إلى الإنتاج المتحرّك، لكن هذا يستوجب شرطا أن يكون النّص ممتعا ومشوّقا جذّابا متّصفا بالجمال، محرّضا على الكشف وداعيا إلى الإبحار في أعماقهv، فمواطن السّر والجمال الكامنة في النّص، هي وحدها القادرة على زعزعة قدرات القارىء المتلقّي، وتفجير ما بداخله وتفعيل مواهبه.
1/ ثنائية الغياب والحضور والبروز القوّيّ للقارىء في نصّ الكتابة
لقد خضع الخطاب في ظلّ التّوجّه البنيوي المتأثّر بالدّرس اللّغوي الحديث والطّرح الشّكلي ومقولة ميشال فوكو الّتي أعلنت عن موت الإنسان إلى تغيير جوهري في الدّراسة، حيث أصبح التّركيز في تحليل الرّسالة على الدّال باعتبار أنّ اللّغة تكتفي بذاتها في الدّلالة عن محمولاتها، وتراجع الطّرح الّذي كان يؤمن بسلطة المؤلّف، وحلّ منظور جديد يأخذ بسيادة سلطة اللّغة معتقدا أنّ المبدع ما هو إلاّ عنصر من عناصر النّظام القائم؛ فترتّب عن هذا التّوجّه „عزل للنّص عن صاحبه وعن الظّروف الّتي أملته فيطبق بذلك منهجا يعرف بالمثولية„vi .
وبأسلوب المخالفة، فإنّ هذه الرّؤية في الطّرح أبانت عن تصوّر آخر يُقصي سلطة النّقد المطلقة على النّصوص ومن ثمّة يستبدل النّاقد المعياري بقارىء متسائل لا تتحدّد سيرته ولا يدّعي امتلاك شرعية الحكم على الموضوع الجمالي، بل هو متجوّل بين فجوات النّص.
وعلى الرّغم من استرجاع اللّغة لمكانتها في عملية الاتّصال والفهم، فإنّ القراءة النّسقية وقعت في نفس الخطأ الّذي وقعت فيه القراءة السّياقية، فالنّقد البنيوي بدلا من أن يناقش الأطروحات النّظرية، راح يشتغل على سننها واعتبرها من المسلّمات، فنتج عن ذلك إغلاق النّص وتوجيه مشروط للمتلقّي، في حين أنّ النّص وُجد للقراءة ممّا يستلزم بالضّرورة التّجاوب معه.
وإذا كانت البنيوية الصورية قطيعة مع الفهم النّمطي والطّرح المسيّر في الدّراسة النقدية، فلقد كانت الدّافع الرّئيسي في بروز مناهج تواجه هذا التّطرّف البنيوي لما عُرف به من مغالاة وإغلاقه للنّص وفرضه المنظور الأحادي الّذي لا يؤمن إلاّ بالقوانين الدّاخلية داخل خطاب محدّد؛ فتخلّص المتلقّي القارىء، في ضوء ما بعد البنيوية، من هذه الجبرية الرّافضة لطبيعة علاقة الأدب بالحياة، وتحرّر العمل الإبداعي من الخِناق المفروض الذي يركّز على الدّاخل، بل واستطاعت هذه المناهج أن تُعيد للقارىء أهميته في عملية إنتاج النّص، وتُخرج القراءة من التّهميش والسّلبية إلى قراءة إيجابية، وتحديدا مع التصوّر الذي جاءت به مدرسة كونستانس الألمانية، بريادة كلّ من ياوس و آيزر .
إنّ هذا التّحوّل الّذي عرفته القراءة والمتعلِّق بفهم الظّاهرة الأدبية في ظلّ المقاربات الحداثية، أدّى إلى تراجع صوت المؤلّف وظهور الكتابة كبديل متحرّك يحيى مع كلّ قراءة باعتبار أنّ العملية الثّانية تمثّل الوجه الآخر للعملية الأولى في حركية تحاورية بينهما دون وساطة، وهذا يؤكّد على أنّ كلّ قراءة لا تتمّ في فراغ وإنّما هي مدفوعة إلى الانطلاق من نصّ سابق؛ وعليه فهي تتأرجح بين الذّاتية والموضوعية، وأنّ الكاتب لا يمكن إلاّ أن يُحاكيَ فعلا هو متقدّم عليه، وبمفهوم آخر، لا يمكن للعمل الأدبي أن يكون إبداعا خالصا متفرّدا، بل هو سليل الكتابات الّتي سبقته بإحدى الطّريقتين ضمنية أو صريحة “ نظرا لأنّ سنن النّصوص ونوعيتها وتقاليد القراءة كلّها عوامل تساهم بشكل غير واعٍ في مدّ القارىء بتصوّرات أوّلية عن محتوى وشكل العمل الفنّي„vii.
وهذه القراءة هي أكثر مظاهر التّناص مشروعية، لكنّ ذلك لا يتأتّى إلاّ بما يحقّقه النّص من وقع جماليّ في الذات القارئة كي تقوم بدورها في بناء المعنى بعدما يحصل لها من ملء فراغات النّص، فالقراءة الأدبية ليست كالقراءات الأخراة، فهي عالم يجسّد عوالم، وهي جنس يمثّل أنواعا داخلية أكثر من وجه، فهي شبيهة بالإبداع المتوازي مع النّص الأصلي المُعالجviii.
و لما كان الأديب يمتصّ معنى النّص الغائب ويتشرّبه ويعيد إخراجه من جديد من دون أن يكون هناك من بروز شكلي واضح للنّص الغائب في النّص الحاضر، أَلاَ يجوز لنا أن نسلّم بأنّ هذا المعنى يجمع في طياته بين التّأويل والتّفكيك والتّناص والاختلاس في السّرقات المعنوية ؟
أ/ حوارية النّصوص في الموروث النّقدي العربي
إنّ ظاهرة التّداخل والتّحاور والتّفاعل بين النّصوص الّتي شغلت النّقاد منذ القدم إلى يومنا هذا، لم تُعرف كتصوّر اصطلاحي نقدي في الرّؤية الغربية الحديثة إلاّ في العقود الأخيرة من القرن العشرين (ق20)، وحقيقة تواجده كمصطلح في المنظور العربي الحديث لم يكن إلاّ نتيجة الاحتكاك بالثّقافة الأوروبية بفعل التّواصل المتعدّد الأشكال.
غير أنّ هذا الفهم والتّسليم بتسمية التّناص كبديل عن الدّراسات الّتي أغلقت النّص الأدبي في التّعامل الغربي والعربي في العصر الحديث، يدفعنا إلى التّساؤل عن فرضية استخدام هذه السّمة الفنية في تراثنا البلاغي والنّقدي؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ مصطلح التّناص يجد له معان ومفاهيم في تراثنا، تؤدّي معناه التّقريبي كالتّضمين والاقتباس والمعارضة والسّرقات الشّعرية، „وعلى الرّغم من تضمّن التّناص معنى تلك المصطلحات العربية، فإنّه أكثر منها تطوّرا وتعقيدا، وهو يحمل طبيعة هذا العصر ويدلّ على معان وأنواع أكثر تعدّدا وتنوّعا„ix .
*النّص الشّعري من الإنكار إلى الارتكاز إلى التّضمين
يقول حسّان بن ثابت: لاَ أَسْرِقُ الشُّعراء ما نَطقوا ….. بلْ لا يُوافقُ شِعرَهم شِعْريx
إنّ القارىء لهذا البيت الشّعري، يدرك جليّا أنّ قضية السّرقات الشّعرية، لم تكن ثمرة نقاد العرب في العصر العبّاسي كما هو معتقد، وإنّما حقيقتها تمتدّ جذورها إلى العصر الجاهلي، حيث أنّ هذه المسألة شغلت الكثير من الشّعراء (والّذين يتذوقّون الشّعر)، وإنْ تحدّدت رقعتها في مناسبات معيّنة، واستاء البعض منها ورأوْا فيها عيبا واعتبروا ذلك ترجمة لضعف الموهبة لدى الشّاعر.
ومع ذلك فإنّ هذه النّظرة ذات البعد الضيّق، ما فتئت أن تبقى على حالها، وعدّها الكثير من النّقاد، فيما بعد، رؤية فنيّة تكشف بحقّ عن الثّقافة الشّعرية الّتي يمتلكها الشاعر، يقول العسكري: „ليس لأحد من أصناف القائلين غنى عن تناول المعاني ممّن تقدّمهم والصّب على قوالب من سبقهم„xi؛ فالنّص الشّعري لا يُخلق من عدم، بل عليه أن يرتكز على نصوص سابقة، دون إغفال درجة الاختلاف بين المبدعين في عملية الارتكاز، وهذه العملية تمرّ –حتما– بالحفظ والاختزان في الذّاكرة ثمّ النّسيان، ليشرع بعد فترة زمنية في عملية استرجاعية.
والأمر في السّرقات الشّعرية أنّها لا تتحقّق في الألفاظ، وإلاّ نفد الكلام، ولا في المعاني المشتركة الّتي تفطنت إليها النّفس البشرية، وإنّما يتعلّق بالمعاني المخترعة الّتي يعود الفضل في إخراجها لأصحابها فأمست وقفا عليهم، وهذا الكلام يؤكّده قول عليّ –رضي الله عنه– : „لولا أنّ الكلام يُعاد لنفد„، وهو ما يقول به الفلاسفة أيضا: „إنّك لن تسبح في النّهر مرتين„، وهذا دليل آخر على أنّ المعاني في تجديد دائم ومتواصل.
وإذا كان القاضي الجرجاني يبالغ حينما يعتبر أنّ ما تقدّم من الشّعراء قد استغرق جميع المعاني بل وأتى على معظمها؛ فإنّ ابن رشيق لا يتّفق مع هذا المنحى، ذلك أنّ المعاني تتجدّد وفقا لتجدّد الأزمان والأمم، وأنّ البشر يختلفون في طريقة ومستوى فكرهمxii. فموهبة الشّاعر وقوّة قريحته وسعة اطّلاعه وغزارة ثقافة شعره، كلّ ذلك كفيل بأن يجعل المبدع ماهر في اختراع المعاني وتوليدها بحكم التّداول.
صحيح أنّ المتناص كتصوّر اصطلاحي لم يُعرف إلاّ في العصر الحديث –نُسِب لجوليا كريستيفا–، إلاّ أنّ مفاهيمه في حقيقة الأمر، ضاربة بجذورها وواضحة المعالم في كلّ من المنظورين اليوناني والعربي. فهذا أرسطو يقول بمناسبة تعرّضه للسّرقات „إنّ هناك صورا تعبيرية يستخدمها الشّعراء نقلا عن نظرائهم الأقدمين„.
وفي الموروث النّقدي العربي، نلمس إشارة قوية لهذا المعطى الجمالي من خلال توظيف بعض المصطلحات –آنذاك– كالسرقة والمعارضة والاقتباس… وأكثرها دلالة التّضمين.
ولعلّ مصطلح التّضمين بالطّريقة المتناولة عند شعراء ونقّاد العرب –قديما– قد يكون أقرب إلى حوارية باختين وأكثر التصاقا بالتّناصية عند كريستيفا، حيث أشارت في كتاباتها أنّ كلّ نصّ يتشكّل كفسيفساء من الاستشهادات والاقتباساتxiii، وهي ترى أنّ „المدلول الشّعري يحيل على مدلولات خطابية أخرى غيره، وذلك إلى حدّ أنّه بإمكاننا أن نقرأ في النّص الشّعري الواحد خطابات متعدّدة، وهو ما يخلق حول المدلول الشّعري فضاءً نصّيا مضاعفا، الّذي نسمّيه تناصا„xiv.
لكن ما ينبغي التّنبيه إليه أنّ هذه المصطلحات تختلف عن المصطلح الغربي المعاصر في الغاية والهدف، لذا فهي لا تعدو إلاّ أن تكون „شكلا من أشكال التّناص، والقاسم المشترك بينها وبين التّناص هو فكرة انتقال المعنى أو اللّفظ، أو كليهما، أو جزء منهما من نصّ إلى آخر، ومن عمل أدبي إلى آخر، مع اختلاف في المقصد والغاية„xv.
ومهما يكن من أمر، فإنّ الاجتهادات الّتي سرى في خطاها النّقد العربي القديم، لا يمكن أن نجعلها تصل إلى مصاف التّصوّر الاصطلاحي للتّناص لدى الغرب، ذلك أنّ النّقاد العرب قديما، كان يعنيهم من وراء هذا توظيف (السّرقات+المعارضة+النّقائض+الاقتباس+التّضمين) الجانب البلاغي والجمالي قصد الارتقاء بالشّعر، ولم يتعرّضوا لدراسة العلاقات القائمة بين النّصوص؛ لذا نجد هذه الاستعمالات يعتريها الكثير من التّداخل، لا نكاد نجد معه ضابط يميّز بينهما.
ب/ التّفاعل النّصي في الخطاب النّقدي الغربي
يقوم التّداخل* بين النّصوص على مفهوم مفاده أنّه لا يوجد تعبير لا تربطه صلة بتعبير آخر، وهذا يدفعنا إلى رفض فكرة النّص العذري والانطلاق من انفتاحه، فالعمل المنجز يتشكّل من نصوص سابقة أو معاصرة، يغيب فيه النّص الأصلي بفعل القراءة والفهم والتّأويل والتّقويض، ولا يمكن إدراك خيوطه إلاّ عند أهل الخبرة والدّراية.
لقد تمكّن رولان بارت من استثمار مصطلح التّفاعل بين النّصوص، بل ووسّع آفاقه، حين دعا إلى فاعلية القراءة، حيث انتقل بالتّناص من ذاكرة النّص وبنيته إلى ذاكرة القارىء أيْ من محور النّص إلى محور النّص/القارىء، ذلك أنّ النّص كتابات بعضها فوق بعض (أو ما يسمّى بجيولوجيا الكتابات)، تحتكم إلى مرجعيات مختلفة وإلى أفاقات متنوّعة، يقوم فيها القارىء بإعادة نسج خيوطها في نصّ انطلاقا من مخزون ذاكرتهxvi، وهذا ما يوفّر للنّص انفتاحه ويُقصي الصوت المفرد والحالة الانفرادية للنّص، فيتمّ التّفاعل والتّداخل والتّواصل، بل وتتحقّق عملية القراءة وقُرّائها، فالنّص الحاضر يمثّل صلة نصية –في الأصل– وهو مصوغ من نصوص أخرى؛ ذلك أنّ الأثر الفنّي بتخزينه للمعاني المتوارية، يحجب دائما نصًّا غير مُصرّح به.
وبالرّجوع إلى الدّراسات اللّسانية الحديثة، يبدو أنّ أوّل من أرهص لمفهوم التّناص تلميحا دون إظهاره العالم الألسني ياكبسون في تناوله لمبدأ التّزامن والتّعاقب، ذلك أنّ التّزامن لا ينظر للأدب في حقبة معيّنة، ولكن في إطار التّراث الّذي يحيى في الفترة الّتي تناولها موضوع البحث، يقول „فكلّ نظام تزامني يتضمّن ماضيه ومستقبله اللّذين يكوّنان عناصره البنيوية اللّازمة له„xvii.
إنّ مصطلح التّناص (الرّابط النّصي) (التّعالق النّصي) (Intertextualité)؛ سوف يتأكّد حضوره –توظيفا وتطبيقا– في مناهج ما بعد البنيوية ، كردّ على الخناق المفروض على النّص والتّحرّر من الفهم المغلق، ولعلّ النّاقدة جوليا كريستيفا، تعدّ أوّل باحثة تبرز هذا التّصوّر الاصطلاحي بطريقة ترويجية ورسمية ولكن بعد تأثّرها بحوارية باختين (Dialogisme) الّذي كان يرى بأنّ الكلمات المستعملة مسكونة بأصوات أخرى، وأنّ الحوارية هي كلّ علاقة تحكم ملفوظا بملفوظات أخرى، فأعادت أفكاره وأسّست لهذا المفهومxviii، مستعملة هذا المفهوم كمفتاح للتّنصّل من طوق البنيوية العتيقة، وإن كان أوّل من أشار إليه شكلوفسكي أحد أقطاب المدرسة الشّكلانية، والّذي يعود إليه الفضل –أيضا– في التّمهيد لجمالية التّلقّي الألمانية.
ترى كريستيفا الّتي تؤمن بتداخل النّصوص أنّ مصطلح التّناص يتشكّل ضمن الإنتاجية النّصية الّتي تمثّل تَرْحال النّصوص ونتيجة تلاقيها وتحاورها وتتابعها وتناسلها، فلا نصّ يولد إلاّ من خلال نصوص أخرى “ ففي فضاء نصّ معيّن تتقاطع، وتتنافى ملفوظات عديدة، مقتطعة من نصوص أخرى„xix.
إذًا هي تذهب إلى أنّ الدّلالة الشّعرية تتشكّل من نصوص سابقة أو معاصرة حتّى يتمّ التّفاعل والتّعدّد والثّراء، لأنّها مجال لتقاطع عدّة شفرات تجد نفسها في علاقة متبادلة.
إنّ النّص الفنّي ليس امتصاصا لغيره من النّصوص (كما يعتقد بعض الدّارسين وهو ما أشارت إليه أيضا كريستيفا)، وإنّما هو مستجيب، وفي حدود إبداعية معيّنة تختلف من أديب إلى آخر، لمعطيات نظام تواصلي محدّد لا بدّ من أن تخضع له كلّ الرّسائل الدّاخلية في إطار علاقات تناصية، ذلك أنّه إذا اعتقدنا بأنّ التّناص علاقات امتصاصية يعتمد فيها اللاّحق على السّابق؛ فإنّه لا بدّ لنا من أن نصل إلى الباب المسدود فيما يخصّ تحديد النّص الأصلي والتميّزxx.
إنّ الانتقال بالنّص من الاستهلاك إلى إنتاجية المعاني هو دأب سار عليه البحث العلمي الحديث والذّوق الجديد لتخليص القراءة من رتابة الأحادية إلى فعل التّوليد وذلك على مستوى كلّ من الدّال والمدلول، حيث تتحرّك الكلمة داخل النّص وهي تعبّر عن أصوات متعدّدة تلتقي فيها ثقافات مختلفة؛ فالنّصوص في نظر جاك دريدا هي بالضّرورة تركيب لأكثر من خطاب فردي، وإذا تعلّق الأمر بالشّعر، فإنّ الذّات لا بدّ أن تضع مسافة بينها وبين ذاتها الواقعية إذا هي أرادت أن تعبّر عن شيء جديد. وهذه الوضعية تخلق حوارا في النّص بين أكثر من ذات واحدة ينتج عنه أيضا قراءة مختلفةxxi.
ولأهميّة ظاهرة التّداخل بين النّصوص وتفاعلها في انفتاح المدلول من خلال ثنائية الابتعاد والاقتراب؛ فإنّ التّقويضية سوف تتعامل مع مصطلح التّناص على أنّه ركيزة أساسية في إلغاء وجود حدود بين النّصوص ونفي مبدأ التّجانس بينهما، يقول رائد هذا المنهج: „أنا لا أعتبر النّص، أيّ نصّ متجانس، ليس هناك من نصّ متجانس„xxii.
ومن هذا المنطلق، فإنّ دريدا لا يؤمن إلاّ بفكرة أنّ كلّ النّصوص متناصة، ومن ثمّة فليس لها حدود تحدّها وهي تقوم على جدلية متواصلة ممّا تكسب النّص المولود ميزة الانفتاح من خلال عملية الهدم والبناء، وإنّ أيّ نصّ في المعتقد الدريدي “ لا يملك أبا واحدا، وجدرا واحدا„xxiii.
وعلى الرّغم من أنّ ظاهرة تداخل النّصوص تتقاطع مع أغلب المناهج الّتي تجلّت بعد البنيوية، إلاّ أنّ مصطلح التّناص سوف يُحمَّل معان مختلفة ويُحدِث جدلا في الفكر النّقدي، ويقوم على تفعيل القراءة باعتبار أنّ النّص الجديد يعيد قراءة النّصوص التّي دخلت في تكوينه وقام بتحويلها لغاياته، بل وسوف ينبثق عنه تعدّدية في القراءة للنّص الواحد تبعا للفهم والتّأويل، وهذا تمهيد قوّي لحضور المتلقّي.
وفي هذا التّوجّه وبمناسبة تعرّض يوري لوتمان لهذا المفهوم، سيحوّل مصطلح التّناص من معطاه الإنتاجي إلى منظور التّلقّي على نحو أصبح معه مرتبطا بعلاقات غير نصية، ذلك أنّ النّص الأدبي ليس مستقلا، وإنّما يدخل في تعالقات مع سلسلة من البنيات الأخرى التّاريخية والثّقافية والنّفسية المتلازمةxxiv.
هذا التّصوّر الّذي جاء به لوتمان، سوف يكون رافدا آخر لدراسات تربط بين التّلقّي والتّفاعل النّصي من خلال العلاقة الّتي تجمع بين النّص المقروء ونصوص أخرى باتّخاذ آلية التّأويل سندا لدى المتلقّي، حيث تُحدث القراءة المتبصّرة والمتأمّلة قطيعة مع الدّلالة المباشرة وتُنتِج معان جديدة تتوافق وأُفق انتظار القارىء المؤوّل، وهذا ما سار عليه مشال ريفاتير في كتاباته، „ويبدو أنّ الدّراسات الشّعرية منذ أرسطو إلى اليوم، وعلى الرّغم من تباينها على مستوى خلفياتها المعرفية أو مفاهيمها، تكاد تجمع على أمر جماليّ واحد يتمثّل في أنّ هناك فعّاليتين تتحكّمان في عملية الإبداع، هما؛ الكتابة والقراءة في آن واحد، ويترتّب على ذلك أنّ النّص الأدبي ما هو إلاّ كتابة من الدّرجة الثّانية„xxv، وعلى هذا المنوال سوف تسير الدّراسات اللاّحقة متشبّعة بالأطروحات التّنظيرية في هذا الشّأن مؤمنة بالتّصوّر الفاعل، التّلقّي وفعل القراءة، معلنة عن الحقّ المسلوب للمتلقّي والقارىء.
ج/ تمويه المعنى في الدّرس النّقدي العربي الحديث بين الشّعرية العربية القديمة والتّصوّر الغربي
ساد تصوّر لم يستحسنه بعض الدّارسين في التّناول النّقدي العربي الحديث، على أنّ مصطلح التّناص بأشكاله المختلفة مفهوم يقترب من مفاهيم السّرقات الشّعرية والمؤثّرات الأدبية، وتمّ توظيفه بهذه الصّورة البسيطة في الأعمال التّطبيقية.
ونحن لا نُنكر أنّ معنى التّضمين البلاغي الّذي يعدّ مفهمة من السّرقات، يسير في خطّه العام على خُطى الطّرح الغربي في مواجهته لقضية تداخل النّصوص، بل ونعتقد أنّ هذا الخلط الّذي وقع فيه الكثير من الدّارسين العرب –وبخاصّة أصحاب المَنحى المحافظ– يجد تواجده حتّى في الفكر الغربي، وربّما يعود الفضل إلى ريفاتير في التّمييز بين مصطلحي تقاطع النّصوص (Intertexte) الّذي يعني دراسة نصّ في إطار نصوص متقاربة منه، وهذا ما يعرف بالبحث عن المنابع*، ومصطلح التّناص (Intertextualité) الّذي هو عمل منتِج يقوم على تمويه المعنى وتحويله نحو قابلية النّص للتّدليل تبعا لتدخّل القرّاء بكلّ خلفياتهم الإيديولوجيةxxvi.
ولقد ذهب بعض الدّارسين إلى عدم الموازنة بين السّرقات الأدبية في الموروث البلاغي العربي وظاهرة التّناص الّتي تعدّ بدعة القرن العشرين، واعتبر أنّ كلّ سير على هذه الشِّرعة مآله الخروج عن منطق التّاريخ ووعيه، فالتّناص كتصوّر اصطلاحي وبمفهومه الحداثي يجمع بين الأدبي والفلسفي، والغاية من بعده الفلسفي، هو نسف بعض المبادىء الّتي قامت عليها العقلانية الأوروبية الحديثة والمعاصرة، في حين أنّ مفهوم السّرقات استمرّ جماليّا وأدبيا وأخلاقيا بناء على محدّداتهxxvii.
إنّ المتتبّع للدّراسات النّقدية الحديثة –عند العرب–، يدرك جليّا أنّ مصطلح التّناص لم يُتجاهل ولا كان معنى خافيا، بل استخدم في الجانب التّطبيقي (ولو بطريق الإسقاط عن الغرب)، وأبرز شاهد على توظيفه، دراسة فريال جبّوري غزّول*، الّتي تناولت فيها قصيدة محمّد مطر (قراءة)، حيث استوحت جوهر معنى المصطلح دون الخوض في تفاعله، وأشارت إلى منبعين من مصادر التّناص عند مطر، وهما؛ التّناص القرآني والتّناص الصّوفي، واستطاعت أن تُوجِد نوعا من التّفاعل بين النّص القرآني وما هو مقتبس أو مضمّن، وهي تعرّف العملية التّناصية ب„تضمين نصّ لنصّ آخر أو استدعاؤه، وفيه يتمّ تفاعل خلاّق بين النّص المستحضِر والنّصّ المستحضَر„xxviii.
وهي بهذا الطّرح تدخل بنا إلى رحابة القراءة والتّلقّي، حيث تجعل من الاستدعاء شِرعة يسلكها الشّاعر ليمتصّ معنى النّص السّابق ويتشربه ويهندسه في صياغة جديدة، داعية القارىء أن يرتحل بذوقه في العملية الإبداعية بين مستويات النّص وطبقاته، يتحاور مع شفراته فهما وتأويلا، باحثا وكاشفا عن مكامن الجمال فيه. وهذا ضمن ميزة التقاء القراءة بالكتابة، الّتي ارتقت بالمتلقّي من سلبية مفروضة إلى إيجابية تجمع بين التّأمّل والإدراك والتّذوّق والتّأويل.
أمّا عبد الملك مرتاض، الّذي يجمع –في أعماله– بين التّنظير والتّطبيق في تعامله مع ظاهرة التّناص، يفضّل أن يغرف من ثقافته الواسعة الّتي تُزاوج بين الموروث النّقدي العربي والمناهج الغربية ويمزج بين الأصالة والحداثة محترزا من تلك التّرجمات الّتي قد تشوّش فكر المتلقّي، لذا نراه يقدّم بعض البدائل كقوله بمفهوم النّصنصنة* (ربّما قياسا على مصطلح العنعنة في رواية الحديث الشّريف) ورغم نهله من الثّقافة الغربية، إلاّ أنّه لا يتحرّج من اعتبار أنّ السّرقة الشّعرية والمعارضة والتّضمين والاقتباس، ما هي إلاّ أشكال متعدّدة ومتنوّعة من التّناص، وعلى النّقاد العرب إعادة النّظر في الشّعرية العربية القديمة –بعيدا عن كلّ تحيّز– باحتضانها فهما وتذوّقا وتأمّلا وتمحيصا ثمّ استخداما من دون الذّوبان في التّصورّ الاصطلاحي الغربي بطريق الإعجاب والانبهار والتّسليم المطلقxxix.
ولعلّ أبسط وأوضح وأدقّ ما قاله عبد الملك مرتاض في تعريفه للتّناص –وإن كان يراه غير التّناصية–، على الرّغم من تعرّضه لهذه الظاهرة في الكثير من كتاباته، بأنّه „حدوث علاقة تفاعلية بين نصّ سابق ونصّ حاضر لإنتاج نصّ لاحق„xxx، وكأنّ مرتاض يؤمن بفكرة أنّ إنشاء النّص الجديد لا يكون إلاّ من خلال تضافر مجموعة من النّصوص وتحاورها وتداخلها.
ونحن نسلّم أيضا، أنّ أيّ كتابة لا تبزغ للوجود إذا لم تدخل في علاقة تفاعلية وحوارية مع ما سبقها من نصوص، فالذّاكرة والوعي والمخزون الثّقافي شروط أساسية للخلق من جديد، تمرّ عبر هذا الخيط السّحري الّذي نسمّيه تداخل النّصوص وتفاعلها.
إنّ استكمال النّقص وملء فراغات النّص، الّذي يقوم به القارىء بعد استحضار الغائب، لا يتمّ إلاّ إذا توفّرت له ذائقة عالية، وكان مزوّدا بخبرات قرائية، تخلق الاختلاف في مواجهة النّص الأدبي، ذلك أنّ إمكانية تحقيق قراءة موضوعية يكون ضربا من الوهم، فالقراءة تجربة شخصية „ولقد نختلف في القراءة لاختلافنا في الذّوق، ولاختلافنا في مستويات المخزون الثّقافي، ولاختلافنا في درجة التّحسّس بالجمال العظيم…“xxxi؛ فالقراءة الحقيقية والإبداعية هي الّتي لا تقف عند حدود النّص شرحا وتفسيرا، وإنّما تسعى عن طريق الكتابة بتتبع الدّلالات الّتي يحدّدها القارىء إلى إنتاج نصّ أدبيّ جديد.
وعلى الرّغم من أنّ القارىء يتمثّل المعنى الغائب في النّص، فلا ينبغي أن يكون هذا المعنى نتاجا خالصا لمخيّلته، وإنّما يبقى (أيْ المدلول) في ارتباط دائم بما يفضي به النّص (الجوّ العام للنّص)، ومع ذلك فإنّه من العسير علينا أن نمسك بزمام هذا المعنى ما لم نتمثّله ونتصوّرهxxxii، بل إنّ عملية التّأويل المتأتية من الفهم، تأبى الحياد، فالقارىء له تاريخه والنّص له تجربته، ولا يتأكّد حضور القارىء الفعّال إلاّ من خلال جدلية الهدم والبناء كما يؤكّد ذلك صاحب المنهج التّقويضي جاك دريدا.
أمّا الغذامي –المُولَع بالفكر التّفكيكي*، من خلال تشريحه للنّصوص، وفي كلامه عن تداخل النّصوص، الّذي يراه على أنّه مبدأ تمرّ به كلّ النّصوص والكتابة الّتي يعتقد أنّها تشكيل لأثر سابق، لا يرفض مصطلح التّناص، فحديثه عن هذه الظّاهرة وتعدّد اصطلاحاتها وتعريفاتها مأخوذ نقلا عن التّفكير الغربي، ومع ذلك فهو يرى بأنّ المعارضة الشّعرية في الموروث العربي تمثّل مثالا بسيطا للنّص المتداخل.
وهذا ما يقول به الكثير من النّقاد العرب المعاصرين حيث يعدّون مصطلح المعارضة من خلال إطاره الشّكلي وبنائه الهيكلي، يمكن إدراجه ضمن التّناص الأسلوبي، فالشّاعر المعارِض يلتقي مع النّص الشّعري المعارَض في البنية اللّغوية والإيقاع وحتّى في الصّورة ومن ثمّة فإنّ المعارضة تعتبر نوع من أنواع القراءة السّابقة وتلقّي النّص الشّعري في آن واحد؛ لذا فالنّص عنده، يصنع من نصوص متضاعفة التّعاقب على الذّهن، منسجمة من ثقافات متعدّدة، ومتداخلة في علاقات متشابكة من المحاورة والمعارضة والمنافسة مع سواه من النّصوصxxxiii.
إنّ مصطلح التّناص في نقله إلى العربية وأخذه عدّة تسميات (كالتّداخل النّصي، التّفاعل النّصي، الحوارية، الراّبط النّصي، الكتابة من الدّرجة الثّانية، درجات التّعالق…)، ومهما كان التّقارب والتّباعد بين العرب المحدثين في مقارباتهم لهذه الظاهرة تبعا لمرجعياتهم الفكرية والنّقدية؛ فإنّ الدّراسات العربية الحديثة، اتّخذت من معلوم النّص الحاضر استراتيجية لتحقيق مجهول النّص الغائب بطريق القراءة والفهم والتّأويل، وربّما أحسن ما قيل في هذا المجال هي تلك الكتابات الّتي استوعبت هذا المفهوم الغربي وأعادت غربلته بعد تمحيص وربطته بالموروث العربي في غير تشدّد أو تحيّز.
فالتّجديد إذا لم يكن نابعا من جوهر الأمّة ونهجها، انجرّ عنه الذّوبان في الآخر نتيجة الشّعور بالاغتراب.
iهوامش البحث
. القرآن الكريم بقراءة حفص، سورة البقرة، رقم الآية الكريمة 33، دار المعرفة، دمشق، سورية، س2008،
ii . يُنظر المختارات الشّعرية وأجهزة تلقّيها عند العرب، بلميح إدريس، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرّباط، المغرب، س1995م، ص38.
iii . اللّغة الثّانية، فاضل ثامر، المركز الثّقافي العربي، ط01، س1994م، ص21.
iv. يُنظر، في نظرية النّقد، عبد الملك مرتاض، دار هومة للطّباعة والنّشر والتّوزيع، الجزائر، س2005م، ص61.
v. يُنظر ، Le Plaisir du Texte, Roland Barthes, seuil, 1973, P/25-30
vi. البنيوية في اللّسانيات، محمد حناشي، دار رشاد الحديثة، المغرب، ط01، س1985م، ص59.
vii. تدريس الأدب، استراتيجية القراءة والإقراء، محمود محمد، دار الخطابي للطباعة والنّشر، الدّار البيضاء، س1993م، ص23.
viii. يُنظر، نظرية القراءة، مرتاض عبد الملك، دار الغرب للنّشر والتّوزيع، وهران، الجزائر، س2003م، ص28و30.
ix. قضايا الشّعريات، مرتاض عبد الملك، هيئة أبو ظبي للثّقافة والتّراث، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى، س2010م.
x . الدّيوان، حسان بن ثابت، تحقيق وليد عرفات، دار، بيروت، ج01، س1974م، ص53.
xi . كتاب الصّناعتين، أبو الهلال العسكري، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، س1962م، ص 202.
xii . يُنظر، العمدة، ابن رشيق، مطبعة السّعادة، مصر، ط02، ج02، س1955م، ص244.
xiii. يُنظر، الخطيئة والتّفكير –من البنيوية إلى التّشريحية–، الغذامي، الهيئة المصرية العامّة للكتاب، القاهرة، ط04، س1998م، ص15.
xiv . Sémiotiké. Recherches pour une sémanalyse, Julia Kristeva, A.J. Picard, 1981, p/194.
xv. التّناص بين النّظرية والتّطبيق، حلبي أحمد طعمة، منشورات الهيئة العامّة السّورية للكتاب، دمشق، س2007م، ص44.
** إنّ المقارنين (في الأدب المقارن) تناولوا مفهوم التّناص واستعملوه كأداة تحليلية تحت عنوان „التّأثير والتّأثّر„، وانحصر اهتمامهم في دراسة الموضوعات المشتركة بين نصوص الثّقافات المختلفة وكيفية تلقّيها واستقبالها{ اُنظر ص253 من كتاب د/ حسين خمري بعنوان نظرية النّص}.
xvi. يُنظر درس السيميولوجيا، رولان بارت، ترجمة عبد السّلام بنعبد العالي، م.م.س، ص110.
xvii. النّظرية الألسنية عند رومان جاكبسون–دراسات ونصوص–، بركة فاطمة الطبال، لبنان، ط01، س1993م، ص35.
xviii . Sémiotiké. Recherches pour une sémanalyse, Julia Kristeva, OP. CIT , p/14.
xix. علم النّص، جوليا كريستيفا، ترجمة فريد الزّاهي، دار توبقال، الدّار البيضاء، ط02، س 1998م، ص 21.
. المختارات الشّعرية وأجهزة تلقّيها عند العرب، المرجع المذكور سابقا، ص 224.
xxi. القراءة وتوليد الدّلالة –تغيير عاداتنا في قراءة النّص الأدبي–، حميد لحمداني، المركز الثّقافي العربي، المغرب، ط02، س2007م، ص31.
xxii. حوار مع جاك دريدا، ترجمة كاظم جهاد، مجلّة الكرمل، العدد 14، س 1980، ص 58.
xxiii. بلاغة الخطاب وعلم النّص، صلاح فضل، مكتبة لبنان، والشّركة المصرية العالمية للنّشر، القاهرة، ط01، س1996م، ص306.
xxiv. يُنظرLa Structure du Texte Artistique, LOTMAN YOURI, Traduit du Russe par, ED/Gallimard, 1970, p/390.
xxv. التّناص في الخطاب النّقدي والبلاغي، عبد القادر بقشي، أفريقيا الشّرق، المغرب، س2007م، ص15.
** وهي دراسة تراجعت أهمّيتها في العصر الحديث.
xxvi. يُنظر، القراءة وتوليد الدّلالة، حميد لحمداني، المرجع المذكور سابقا، ص 26.
xxvii. يُنظر، دور المعرفة الخلفية في الإبداع والتّحليل والتّأويل والتّفسير، محمّد مفتاح، مجلّة دراسات سيميائية أدبية لسانية، عدد06، س 1992م، ص 89.
** ربّما تعدّ من الأوائل الّتي خاضت في مصطلح التّناص بطريقة إجرائية.
xxviii. فيض الدّلالة وغموض المعنى في شعر محمّد عفيفي مطر، غزّول فريال جبّوري، مجلّة فصول.
** يقول أيضا بالتّناص الغيري لكنّه يريد به تقليد الشّرق للغرب ولا يدرجه ضمن دراسة التّناص بوصفه مصطلحا لغويا وأدبيا.
xxix. يُنظر الكتابة أو حوار النّصوص، مرتاض عبد الملك، مجلّة الموقف الأدبي، عدد 330، س1998م، ص 14/16.
xxx. النّص الأدبي، عبد الملك مرتاض، مجلّة الموقف الأدبي، عدد 201، س1988م، ص55.
xxxi. القراءة النّظرية وحرية التّلقّي، مرتاض عبد الملك، مجلّة الحداثة، جامعة وهران(الجزائر)، عدد04، س1996م، ص15.
xxxii. يُنظر L’Acte de lecture , théorie de l’effet esthétique, traduit de l’allemand par Evelyne Sznycer, Bruxelles , A/ 1985, P/23 .
** يرى بعض الدّارسين اختلافا بين التّفكيكية والتّقويضية، فإذا كانت الأولى، ترجمة حرفية لمصطلح déconstruction، بمعنى أنّها تعيد الأشياء إلى أصلها، فإنّ الثّانية تنطلق من التّصوّر الاصطلاحي الذي جاء به جاك دريدا، بمعنى هدم النّص ثمّ إعادة بنائه من جديد مع الإبقاء على خطّه الفنيّ العام.
xxxiii33. يُنظر الخطيئة والتّفكير–من البنيوية إلى التّشريح–، عبد الله الغذّامي، المرجع المذكور سابقا، ص327.