الترجمة المتخصصة وسوق العمل: أزمة تكوين أم أزمة برامج؟

أ. هاجر بوزناد
جامعة باجي مختار، عنابة

Bouznad Hajer,
Baji Mokhtar University, Annaba

Abstract:

The present study entitled: “Specialized Translation and the Labor Market; a Problem of Formation or a Problem of Programs?” aims to shed light on the relationship between specialized translation and the labor market in Algeria. It consists of two parts; the first one investigates the different problems that impede the process of forming translators in specialized translation in Algeria, through a study that includes a number of translation departments in some Algerian universities. To these problems, we have suggested a formation program based on three important axes: the autodidactic student/translator, the specialized knowledge and the qualified translation teacher. The second part is about a critical and an objective reading in the programs of teaching translation in an Algerian university and a Moroccan one, focusing on the importance given by these programs to the specialized translation courses. As a conclusion, we found that the Algerian university needs to improve the formation quality as well as the translation programs of specialized translation in order to ensure a productive specialized translation teaching methods that meet the needs of the labor market.

Keywords: specialized translation – labor market – formation – programs

مقدمة:

لم تعد سوق العمل اليوم تكتفي بالمترجم الموسوعي بل حتّمت عليه المزيد من المهنية وبلوغ مستويات أعلى من التخصص الترجمي من أجل أن يكون أهلا لمسايرة مختلف التطورات العلمية. لكنّ متطلبات سوق العمل تلك كثيرا ما تصطدم؛ أولا بواقع التكوين الذي يتلقاه المترجمون في أقسام تكوين المترجمين، وثانيا بواقع برامج تعليم الترجمة -في الجزائر على وجه الخصوص-؛ فمن الطبيعي أن تحثّ التطورات العلمية والتقنية على التساؤل بشأن ما سيؤول إليه إعداد مترجمي الغد في ظل الثورة المعرفية الحالية. ولما كانت الأسئلة في هذا الصدد كثيرة ومتشعبة، فقد يكون من الأيسر تلخيصها على النحو التالي:

ما هي السبل والأساليب الكفيلة بتحقيق التقدم المنشود في مجال تكوين المترجمين في الترجمة المتخصصة؟ وهل يمكن تحقيق التقدم في مجال إعداد المترجمين في الترجمة المتخصصة دون تطوير البرامج الدراسية كي تلائم الأوضاع المستجدة؟

وللإجابة عن تلك الإشكالات، سنسلط الضوء في هذا المقال على المشكلات المتعلقة بتكوين المترجمين في الجزائر والتكوين الحريّ بنا تقديمه للمترجمين تحضيرا لهم لولوج سوق العمل، مع قراءة نقدية مقارنة بين البرامج التعليمية في أقسام الترجمة في بعض الجامعات.

الترجمة المتخصصة وسوق العمل:

لقد اتسعت سوق العمل الوطنية والعربية اليوم اتساعا هائلا، غير أنّها -في واقع الأمر- غير ثابتة، فاحتياجاتها تختلف، ومتطلباتها تتنامى وفقا للتطور الدائم الحاصل في مختلف فروع المعرفة، والقول بإعداد المترجم للتأقلم مع متطلبات سوق العمل الحالية قد لا يكون كلاما حصيفا، فما هو من أولويات السوق اليوم قد يكون غير ذي أهمية كبرى بعد حين، وما كان الاتجاه إليه في سوق العمل قليلا قبل سنوات من الآن قد يكون اليوم على رأس الاهتمامات، وما هو رائج في مجال الترجمة في الجزائر قد لا يكون كذلك في دول أخرى، لذلك فبدلا من تكوين المترجمين في التخصصات الرائجة والمطلوبة في سوق العمل في حقبة معينة وفي منطقة معينة، من الضروري إعداد المترجم لكل ظرف وزمان ومكان، وبدلا من إعداد مترجمين متخصصين كل في مجاله، من الضروري تكوين المترجم ليصبح قادرا على ترجمة نصوص متخصصة في أي مجال معرفي كان.

إن جامعاتنا اليوم تخرّج من المترجمين الكثير، غير أن مسألة كفاءتهم وأهليتهم لترجمة أي نوع من أنواع النصوص المتخصصة قد لا تتم بالكفاءة المطلوبة. ويبدو أن قراءة موضوعية نقدية في أساليب تكوين المترجمين وكذا برامج تدريس الترجمة –كخطوة أولى- كفيلة باكتشاف النقص الذي يكتنف عملية تكوين المترجمين في الجزائر على وجه الخصوص.

تكوين المترجمين المتخصصين في الجزائر:

1.2. واقع الترجمة المتخصصة في الجزائر:

لقد أولت الجزائر اهتماما بالترجمة وأدخلتها ضمن البرامج الدراسية لتكوّن جيلا من المترجمين المحترفين، لكن جهود الترجمة بشكل عام، والترجمة المتخصصة على وجه الخصوص لا ترقى إلى المستوى المطلوب، والدليل على ذلك ضعف الإنتاج العلمي المترجم إلى اللغة العربية، إذ تشير الإحصائيات إلى أن العلوم كلها مجتمعة لا تتجاوز نسبتها 11% من مجموع الترجمات المنشورة في الجزائر ما بين 1980 و2013i. ولاشك أن ضعف الإنتاج في الترجمة العلمية راجع إلى قلة المترجمين العلميين أو ضعف تكوينهم، وبما أن الجامعة ومؤسسات التعليم العالي عموما هي من تتولى زمام تكوين المترجمين، فإن الإشكال الذي يطرح نفسه هنا يتعلق بنوعية التكوين الذي يتلقاه المترجمون في الجزائر، وهذا ما سنحاول التطرق إليه في العنصر الآتي.

2.2. مشاكل تكوين المترجمين في الجامعات الجزائرية:

في دراسة ميدانية أجريت في عدد من جامعات الوطن، رصدت الباحثةii مجموعة من المشاكل التي تعيق سيرورة تكوين المترجمين في بلادنا، حاولت تلخيصها وتقسيمها على النحو التالي:

أولا: المشاكل المتعلقة بالطلبة:

72% من الطلبة في السنة الأخيرة للدراسة يشعرون أنهم غير قادرين على ممارسة مهنة الترجمة وغير جاهزين للحياة المهنية، وهذا ما يطرح مسألة التكوين الذي تلقّوه حتى أقرّوا بعدم جاهزيتهم للحياة العملية.

يُجمع الأساتذة على تركيز الطلبة على ما يقدّم لهم من دروس فحسب، إضافة إلى قلة مطالعاتهم وبالتالي قلة معارفهم غير اللغوية ونقص ثقافتهم الموسوعية.

المستوى المتدني للعديد من الطلبة في أقسام تكوين المترجمين والذي قد يعود إلى سوء اختيار الشعبة الملائمة للطلبة أو عدم خضوع الطلبة لمعايير انتقائية قبل التحاقهم بأقسام الترجمة.

اهتمام الطلبة بتعلّم اللغات الأجنبية وتحسين مستواهم فيها على حساب اللغة العربية.

نفور الطلبة من المقاييس ذات الطابع النظري رغم أهميتها وإقبالهم على المقاييس التطبيقية فقط.

ثانيا: المشاكل المتعلقة بالأساتذة:

أغلب الأساتذة الموكلة إليهم مقاييس الترجمة يحملون شهادات الماجستير، مما يطرح مشكلة التكوين العلمي للأساتذة أنفسهم بين صعوبات التسجيل في الدكتوراه أو عوائق إنجاز أطروحاتهم ومناقشتها وتزمت معايير الاستفادة من التربصات التكوينية وقلة الملتقيات العلمية، إلى جانب ضعف التأطير وقلة الخبرة التعليمية.

يدرّس الترجمة مختصون في الأدب العربي وفي اللسانيات وفي اللغات الأجنبية وربما في التعليمية أيضا وكل ذلك لتغطية النقص الفادح في الأساتذة المختصين في الترجمة؛ فالترجمة في بلادنا هي التخصص الوحيد الذي يتجرأ على تدريسه غير المختصين فيه.

يقترح الأساتذة على طلبتهم بعض النصوص المتخصصة موازاة مع النصوص العامة والأدبية إضافة إلى المعارف الأساسية كمبادئ الترجمة وأخطائها وتقويمها، كل ذلك في مقياس واحد مخصص لهذا الغرض يدعى „الترجمة“، في ظل غياب مقاييس للترجمة المتخصصة.

في حال الاهتمام بترجمة نصوص متخصصة فغالبية الأساتذة يقترحون „النصوص القانونية“ فقط لأنها على حد قولهم الأهم في الحياة العلمية، ويضيفون إليها أحيانا السياسية والصحفية.

ثالثا: المشاكل المتعلقة بالبرامج:

عدم وجود برنامج لتدريس الترجمة على مستوى الأقسام، وإن وجد، فلا يطبق في غالب الأحيان، وقد علّل الأساتذة ذلك بكونه مستهلكا وغير دقيق لا يتماشى والواقع ومتطلبات الحياة العملية.

أجاب 4% فقط من الطلبة أنهم علموا ببرنامج الترجمة من خلال الأساتذة و83% أنهم لا يعلمون أصلا بوجود برنامج للترجمة.

يرى الطلبة أن العديد من المقاييس غير مهمة في مشوارهم التعليمي ولا في الحياة العملية؛ منها: علم الاجتماع – علوم الاتصال – اللسانيات – الحضارات – الإعلام الآلي .

يرى الطلبة أن العديد من المقاييس التي هم بحاجتها تستحق أن تدرج في برنامج تدريس الترجمة؛ نذكر منها: علم المصطلح – الترجمة من الفرنسية إلى الانجليزية والعكس لأنها ذات أهمية قصوى في الحياة العملية – مقاييس الترجمة المتخصصة: القانونية والطبية والاقتصادية والعلمية…– تطبيقات الإعلام الآلي وبرمجيات الترجمة – مقاييس التعبير الشفهي بكل اللغات – منهجية البحث العلمي ابتداء من السنة الأولى والتدرب عليه في شكل بحوث قصيرة ثم إجبارية إنجاز المذكرة للتمكن من المنهجية – مقياس نقد وتقييم الترجمة.

رابعا: مشاكل تنظيمية وتقنية ومادية:

العدد الكبير للطلبة يحول دون متابعة تطورهم بشكل دقيق.

عدم العمل بشروط الانتقاء للالتحاق بأقسام الترجمة وهذا ما يفسر المستوى المتدني للكثير من الطّلبة.

أجاب 93% من الطلبة بأنهم لم يقوموا بأي تربص خلال مشوارهم الجامعي رغم حاجتهم إلى التربّصات المختلفة.

إن المشاكل سالفة الذكر هي عيّنات من أهم المعوّقات التي تعترض عملية تكوين المترجمين عامة، ناهيك عن تكوينهم في الترجمة المتخصصة تحديدا. نقترح في العنصر الموالي تصوّرا لعملية تكوينية متكاملة للمترجم تهتم بالترجمة المتخصّصة وترتكز على ثلاثة محاور أساسية: الطالب والأستاذ والمعارف المتخصصة.

3.2. محاور تكوين المترجم في الترجمة المتخصصة:

تكوين المترجمين المتخصصين –في نظري- تكوين ثلاثي الأبعاد، تتمثل ركائزه في الأستاذ الكفء المؤهل، والمعارف المتخصصة التي ينقلها الأستاذ إلى الطالب، كما أن هذا الأخير –أي الطالب– ينبغي عليه تحمل جزء من المسؤولية من خلال الاعتماد على التعلم والتكوين الذاتي. فتلكم هي المحاور الثلاثة للتكوين في مجال الترجمة المتخصصة، والتي تتكامل حتى تحقق الكفاءة والفاعلية المنشودة في تدريس الترجمة المتخصصة، والتي يلخصها المخطط التالي:

شكل1: مخطط يوضح المحاور الثلاثة

للتكوين في الترجمة المتخصصة

أولا: تكوين المترجم:

يستدعي تكوين المترجمين في الترجمة المتخصصة تدريسهم للغات الاختصاص ومعاجمها المتخصصة وتعليمهم كيفية ترجمة المصطلح العلمي والتقني وانتقاء الترجمة الملائمة للسياق من خلال التدرّب على استعمال المعاجم المتخصّصة، مع ضرورة التنبيه إلى محدودية المعاجم -حتى المصطلحية منها- في عملية الترجمة، والتأكيد على دور السياق والسيرورة التواصلية في بناء معاني المصطلحات في الخطابات العلميةiii. هذا وينبغي الاهتمام بالجانب المادي في عملية تكوين المترجم المتخصص، بتجهيز معاهد المترجمين بالمعدات اللازمة للتدرب على الترجمة، خاصة المتخصصة، من برامج تلفزيونية وأشرطة وثائقية وسينمائية، فضلا عن الموسوعات والكتب التي تسهل عليه البحث التوثيقي والموسوعي، وتوفير الانترنت والحواسيب في القاعات الدراسية التي تساعده في الترجمة وتزوده بالذاكرات الترجمية المختلفة.

ثانيا: تأهيل الأستاذ

لعل الأوان قد آن لتأهيل الأساتذة وحثهم على تحيين update-actualiser معارفهم ليكوّنوا بدورهم طلبة قد تفوق احتياجاتهم ومتطلباتهم بكثير نوعية التكوين الذي تلقّوه هم أنفسهم. كما ينبغي على الأستاذ تنويع المجالات والموضوعات التي تتناولها النصوص المدرجة في إطار مادة الترجمة العامة حتى ولو لم يكن هناك مقياس للترجمة المتخصصة، والتدرج من الأسهل إلى الأصعب؛ ومن الأقصر إلى الأطول؛ ومن الملموس إلى التجريدي؛ وتجديد النصوص سنة بعد سنة؛ ومواكبة أحداث الساعة من خلال ربط النصوص المتناولة في تمارين الترجمة بتلك الأحداثiv. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن الأستاذ يكوّن أجيالا من المترجمين الذين نشؤوا في كنف „عالم محوْسَب“، وبناء عليه، أصبح أستاذ الترجمة مطالبا بأن يتابع عن كثب ما تتطلبه ثورة المعلومات والاتصالات من تغيير في نظرته إلى منهجيات وطرائق تعليم الترجمة وإعداد مترجمي الغدv. ومن المعروف أيضا أنه لا توجد في بلداننا أي مؤسسة جامعية تُعنى بتأهيل الأساتذة لممارسة „مهنة إعداد المترجمين“. ذلك أن معاهد الأساتذة الفعلية هي „سوق“ الترجمة، وشهاداتهم الحقيقية هي الخبرة العملية. ولكن، يـبقى المترجم/الأستاذ في حاجة إلى تعلم „فن نقل الخبرة“ إلى الآخرين، إضافة إلى امتلاك هذه الخبرةvi.

ثالثا: التكوين الذاتي

„إذا كانت المؤسسات التعليمية ومدارس التكوين تقدم مبادئ عامة حول الممارسات الترجمية وتنظيرها وبعض المعارف التي تساعد المترجم على أداء مهمته، فإن المسؤولية تبقى كبيرة وتتطلب من الممارس بذل المزيد من الجهد للتمكن من أسرار الترجمة والكشف عن خفاياها، ولن يكون ذلك إلا بالثقافة الواسعة والمتنوعة حتى يستطيع إنجاز عمله على أكمل وجه.vii“ فمن واجب المترجم أن يعتمد على نفسه وأن يحرص على تحسين وصقل مهاراته اللغوية طوال فترة حياته المهنية. وبعبارة أخرى، فإن المترجمين المحترفين هم في حالةِ تعلمٍ دائم، خاصة إذا كانوا مترجمين في المجالات المتخصصة. إن معارف المترجم التي تتجاوز مدركاته extracognitives هي التي تسمح له بملء الفجوات وبتأويل النص بإعطائه معنى متواطئاً، وبإظهار ما يخفيه ذلك النصviii. ويقول روجر كريس في مقال له معنون بـ“مهنة الترجمة“: „يتعين على المترجم أن تكون لديه معرفة مسبقة بالعمل في ذلك المجال، ولا يعني ذلك أنه يجب أن تكون للمترجم الطبي شهادة في الطب أو أنه يتعين على مترجم كتيبات برامج الحاسوب أن يكون مبرمجاً، ولكن التوفر على بعض المعلومات أو الخبرة أو التعليم (أو الثلاثة معاً) هو مسألة ضرورية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال دورةٍ أو خبرة عملية أو تَعَلُّم ذاتيix.

قراءات في برامج تكوين المترجمين في بعض الدول العربية والغربية:

إنه لمن الخطإ الاهتمام بتكوين المترجمين دون الركيزة التي يقوم عليها ذلك التكوين، ألا وهو برامج تدريس الترجمة، خاصة ما تعلق منها بالترجمة المتخصصة. فلا شك أن هذا التكوين – بنقائصه وثغراته- هو تجسيد لبرامج تدريس الترجمة في أقسام تكوين المترجمين. ومن خلال دراسة وصفية لحال تدريس الترجمة في الوطن العربي وخاصة الجامعات، نقف على تشتت الجهود وعدم احتكامها إلى منهجية عمل مدروسة، إذ ينبغي سن الاختيار اللغوي، أي ما هي لغات العمل؟ وماذا نترجم من النصوص والخطابات؟ وكيف نترجمها؟ ولماذا نترجمها؟ وتدخل هذه الأسئلة في الإجابة عن موضوع التخطيط في التعليمية ودور الترجمة في صنع حضارة أمةx. ومما لاشك فيه أن المسؤول المباشر عن ضعف الترجمة في الميدان العلمي لا يمكن أن يكون غير نقص المترجمين العلميين أو ضعف تكوينهم، ولعلّ دراسة لبرامج تكوين المترجمين بالجامعات الجزائرية ومقارنتها بنظائرها في الجامعات العربية والغربية كفيلة بتحديد مكمن الخلل واقتراح حلول لإصلاحه.

1.3. قراءة في برنامج تكوين المترجمين في جامعة عنابة (الجزائر)

من وحي التجربة الميدانية المتواضعة في تدريس مقاييس الترجمة في قسم الترجمة بجامعة عنابة، يمكن أن أقف على العديد من الثغرات التي تكتنف برامج تدريس الترجمة، وموقع الترجمة المتخصصة ولغات الاختصاص منها، وأقترح كعينة للدراسة برنامج الماستر عربي-انجليزي-عربي وعربي-فرنسي-عربيxi، والذي يمكن أن نقف من خلاله على عدة ملاحظات:

أولا تم تقسيم الطلبة إلى فرعين؛ الترجمة من العربية إلى الانجليزية والعكس، والترجمة من العربية إلى الفرنسية والعكس، وهذا الأمر له إيجابياته وسلبياته في الوقت ذاته. فمن محاسنه أنه لا يجبر الطالب الذي تلقى تكوينه في الليسانس باللغة الفرنسية مثلا أن يكون ضليعا باللغة الانجليزية كذلك، والعكس صحيح، كما أنها طريقة تمنع تشتت جهود الطالب على أكثر من لغة أجنبية وتركز جهوده على لغة يعرفها ويتقنها وتلقى فيها تكوينا أوليا مما يسهل عليه تعلم الترجمة منها وإليها. لكن لهذا الأمر مساوئه خاصة من الناحية العملية والمهنية، فحصول الطالب على ماستر في الترجمة عربي-فرنسي-عربي يحدّ كثيرا من فرص عمله مقارنة بالدفعات التي تحمل شهادات الترجمة عربي-فرنسي-انجليزي. إضافة إلى مشكلة جوهرية تتعلق بتدني مستوى غالبية طلبة اللغات الأجنبية في اللغة العربية والتي هي من أهم عوامل نجاح الطالب في دراسة الترجمة. ناهيك عن مشكلة أخرى لا تقل أهمية وتتعلق بمعضلة الاختيار التي يقع فيها الطلبة الذين تلقوا تكوينا في مرحلة الليسانس في الترجمة ألا وهي اختيار إحدى اللغتين في الماستر: الفرنسية أو الانجليزية؟ علما أنهم سيضطرون للتضحية بلغة درسوها إلى جانب اللغة المختارة وتدربوا على الترجمة منها وإليها لأربع سنوات، وتمتد هذه التضحية إلى شهادة الماستر المبتورة من إحدى لغات تكوينهم الأساسية والتي تقلص كثيرا من فرص اندماجهم في الحياة العملية بنقصان لغة لها وزنها في سوق العمل، سواء أكانت الفرنسية أو الانجليزية. إضافة إلى ذلك، يدرس الطلبة مقاييس الترجمة مدة ثلاث ساعات فقط في الأسبوع وهي ولاشك مدة غير كافية للإحاطة بكل مكونات العملية الترجمية خاصة وأن الدراسة تمتد لسنة ونصف فقط إذ أن السداسي الثاني من السنة الثانية يخصص لإنجاز مذكرة الماستر ومناقشتها، وهذا يعيد إلى الواجهة مسألة حذف مرحلة الليسانس في الترجمة بالجامعات، والتي تعدّ مهمة جدا في التكوين الأساسي للمترجمين، فمترجم قضى ثلاث أو أربع سنوات في دراسة الترجمة وممارستها لا يمكن أن يعادله كفاءة طالب فرنسية أو انجليزية قضى عاما ونصفا في دراسة مبادئها. وينسحب الأمر على مقاييس الترجمة الشفهية. ناهيك عن محتوى مقاييس الترجمة الذي لا يعدو النصوص الأدبية والعامة، وبعض النصوص الصحفية التي يسهل العثور عليها في الصحف ومواقع الانترنت دون التطرق إلى أي من المواضيع العلمية، إضافة إلى غياب لغات الاختصاص من المقررات.

وتجدر الإشارة إلى استحداث مقياس الترجمة المهنية ومقياس لغات تطبيقية في السداسي الثاني من السنة الأولى ماستر واللذين صعب على الأساتذة فهم كنههما وفحواهما، نظرا لتعدد الدلالات التي تشير إليها المسميات وعدم وجود ملحقات وصفية لتحديدها. والحق أن إضافة المقياسين حسنة لو غُيّر عنواناهما أو حُدّد مضمونهما، فالاستثمار فيهما على قدر المدة المتاحة لهما (ساعة ونصف أسبوعيا) أمر جيد ومفيد. كما خصصت مدة ساعة ونصف لكل من الحضارة والثقافة، والفساد وأخلاقيات المهنة، ومنهجية الترجمة ولا شك أنه أمر جيد وضروري في برامج تدريس الترجمة.

2.3. قراءة في برنامج تكوين المترجمين في مدرسة الملك فهد العليا للترجمة (المغرب)

اخترت أن تكون العينة الثانية في هذه الدراسة من دولة المغرب الشقيق لتشابه الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللغوية، وهو برنامج تكوين المترجمين في التشكيلة اللغوية عربي-فرنسي-انجليزي في مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة في أربعة فصول أو سداسياتxii، وتجدر الإشارة بادئ ذي بدء إلى تنوع وتعدد الخيارات بالنسبة للغات المدروسة بالمدرسة بحيث تشمل كل تشكيلة لغوية لغتين أجنبيتين إضافة إلى العربية، وهو ما من شأنه أن يزيد حظوظ الطلبة في العثور على منصب عمل مناسب ويسهل الاندماج في سوق العمل.

يتدرج مقياس الترجمة العامة من الأسهل إلى الأصعب في الفصول الثلاثة الأولى بحجم ساعي قدره 32 ساعة أما في الفصل الرابع فلا يدرّس مقياس الترجمة العامة، بل يحل محلها مقياس الترجمة المتخصصة والذي يُدرج في البرنامج ابتداء من الفصل الثاني بالحجم الساعي نفسه وهو 32 ساعة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الجامعة تعتبر الترجمة المتخصصة بمثل أهمية الترجمة العامة وتتدرج في تدريس كل منهما. ويدرس الطلبة أيضا مقاييس علم الترجمة واللسانيات مجتمعين في مقياس واحد نظرا لأن الترجمة بنت اللسانيات وبينهما ارتباط وثيق، وتقنيات التعبير والكتابة في مرحلتين على مر الفصول الأربعة وفي كل لغة على حدة. كما يدرس الطلبة في الفصل الأول مبادئ في الاقتصاد والقانون لتنمية معارفهم غير اللغوية ومساعدتهم في اكتساب الثقافة الموسوعية. ومن الأمور الملفتة تخصيص 96 ساعة في نهاية السنة وهو حجم ساعي كبير من أجل القيام بالتربصات، فأهميتها في ترسيخ المعارف النظرية والتطبيقية التي تلقوها خلال السنة الدراسية واحتكاكهم بسوق العمل عن كثب كبيرة جدا. ويدرس الطلبة في الفصلين الثاني والثالث منهجية البحث العلمي لتكلل بمذكرة التخرج في الفصل الرابع الذي تستمر فيه الدراسة موازاة مع إنجاز المذكرة ومع التربص، بالمرحلة الثالثة من الترجمة المتخصصة، وذلك لأنه لا يبقى على تخرج الطلبة الكثير من الوقت وفي ذلك إعداد لهم لولوج سوق العمل. كما يدرس الطلبة في هذا الفصل مقاييس الترجمة السمعية البصرية وعلم المعاجم ولغة أجنبية ثالثة كالإيطالية والألمانية والصينية والاسبانية تحضيرا لهم لمرحلة الدكتوراه كما جاء في أهداف البرنامج.

يجمع هذا البرنامج بين المنطقية والمادة العلمية الغنية والتكوين النظري والتطبيقي المتدرج والمتخصص، وهذا ينم عن الاهتمام بالترجمة المتخصصة في الجامعة، وكذا عن جهود منسقة وخطط مدروسة لصناعة برامج لتدريس تتلاءم ومتطلبات الحياة العملية في المغرب الشقيق.

حوصلة:

إن نتيجة المقارنة بين هذين الأنموذجين تفيد بتأخر الجامعة الجزائرية من حيث تدريس الترجمة وبالأخص المتخصصة وقلة الاهتمام بها، وهذا أمر يطرح بإلحاح مسألة تكوين المترجمين وصناعة برامج تدريس الترجمة والاهتمام بالتخصص الترجمي في بلادنا مواكبة لاحتياجات سوق العمل.

خاتمة

إذا كان تعلم الترجمة يعني تعلم مهنة، وإذا كانت مهنة المترجم قد تغيرت لا محالة في عصر يتوجه أكثر فأكثر نحو التطور والانفتاح على العلوم، فمن الطبيعي أن يتغير تدريس الترجمة أيضا، ويتطور ليتماشى مع المعطيات الجديدة في البيئة الترجمية ويحقق التقدم المنشود في مسايرة الركب الحضاري. لذلك من الضروري الالتفات إلى أساليب أكثر نجاعة في تكوين المترجمين المتخصصين أو على الأقل، تزويدهم بالأدوات الضرورية التي تمكنهم من التعامل بأنفسهم مع مختلف أنماط النصوص بغرض ترجمتها، إضافة إلى الاهتمام بصناعة برامج تدريس الترجمة وضرورة إدراج الترجمة المتخصصة في نطاق الاهتمامات مراعاة لمتطلبات سوق العمل.

ونقترح في هذا الصدد جملة من الاقتراحات بناء على النتائج التي خلصت إليها هذه الدراسة المتواضعة:

أولا: بخصوص تكوين المترجمين:

ضرورة إخضاع الطلبة الذين يودون الالتحاق بأقسام الترجمة ومعاهدها إلى فحص تقييمي للبت في أهليتهم لدراسة الترجمة من عدمها، مع تقليص عدد الطلبة في الأفواج.

توفير تكوين يتماشى والتوجهات الكبرى ويستجيب لحاجات سوق العمل.

حث الطلبة على الاهتمام باللغة العربية بقدر اهتمامهم باللغات الأجنبية وتحسين مستواهم فيها.

ابتكار أساليب جديدة أكثر فاعلية وتبتعد عن التقليدية لتدريس المقاييس النظرية ذات العلاقة الوثيقة بالترجمة تجنبا لنفور الطلبة من دراستها وتغيبهم في حصصها.

العمل على تأهيل أساتذة الترجمة وإيكال مهمة التدريس في أقسام الترجمة للأساتذة المختصين فيها أو المترجمين المحترفين، وحثهم على ضرورة تحيين معارفهم وتجديد طرائق تدريسهم.

ضرورة متابعة الأساتذة للتطورات العلمية والتقنية وتمكنهم من وسائل الاتصال الحديثة.

تنظيم تربصات تكوينية للأساتذة الجدد قبل تسلمهم المناصب.

ضرورة اجتهاد الطلبة في القيام بتربصات اكتسابا للخبرة.

تنبيه الطلبة إلى ضرورة تحملهم جزء كبيرا من مسؤولية التكوين الذاتي وتطوير أنفسهم بأنفسهم وعدم الاكتفاء بما يقدم لهم خلال الدروس وحثهم على المطالعة والبحث الموسوعي لتنمية معارفهم وتوسيع مدركاتهم.

إدراج التقنيات الحديثة في التدريس كالوسائل السمعية والبصرية والمخابر والمعاجم خاصة المتخصصة وتوفير أجهزة الحاسوب وقاعات الانترنت، فضلا عن الموسوعات والكتب والمجلات في مختلف التخصصات التي تسهل البحث التوثيقي والقراءة الموسوعية، إلى جانب إثراء مكتبات الترجمة.

إعطاء الأولوية لحاملي شهادة الليسانس في الترجمة في الولوج إلى ماستر الترجمة.

ثانيا: بخصوص برامج تدريس الترجمة:

إعادة النظر في البرامج وملاءمتها مع الاحتياجات المستجدة في عالم الشغل والعمل على تجديدها وتحيينها تماشيا مع التطورات العلمية وتنامي متطلبات سوق العمل.

إطلاع الأساتذة والطلبة على برامج تدريس الترجمة واستشارة كافة الأطراف الفاعلة في عملية تعليم وتعلّم الترجمة لرصد نقائصها وإصلاحها.

برمجة رحلات وبعثات علمية للطلبة إلى الخارج للاطلاع على الثقافات الأخرى وممارسة اللغات وتنظيم التربصات العلمية لصالح الطلبة مع الأطراف الفاعلة في عالم الشغل.

تكثيف الجانب التطبيقي في تدريس الترجمة والتركيز عليه.

إلغاء المقاييس غير المهمة أو ذات الصلة غير المباشرة بالترجمة كعلم الاجتماع وعلوم الاتصال ومبادئ الإعلام الآلي، وإضافة مقاييس دراسية تخدم الطلبة مثل علم المصطلح والترجمة من الفرنسية إلى الانجليزية والعكس وتطبيقات الإعلام الآلي وبرمجيات الترجمة للتدرب على الترجمة الآلية، ومقاييس التعبير الشفهي والكتابي بكل اللغات ومقياس نقد وتقييم الترجمة.

ضرورة إدراج مقاييس الترجمة المتخصصة في برامج تدريس الترجمة.

إدراج المقاييس التي تعمل على تنمية المعارف غير اللغوية لدى الطلبة.

الوصف الدقيق لمقاييس الدراسة وتحديد مضامينها وتسميتها بمسميات بعيدة عن الغموض وتعدد التأويلات.

إدراج منهجية البحث العلمي ابتداء من السنة الأولى والتدرب عليها في شكل بحوث قصيرة ثم إجبارية إنجاز المذكرة في مرحلة الليسانس للتمكن من المنهجية.

إعادة النظر في الأحجام الساعية المخصصة للمقاييس المختلفة وإعطاء القدر الأكبر منها لمقاييس الترجمة.

توسيع عدد اللغات الأجنبية التي يتضمنها برنامج التكوين في الماستر ضمانا لفرص أكبر في سوق العمل.

مراعاة التدرج والعقلانية في تحديد مضامين المقررات مع تطور المستوى الدراسي.

النظر في إمكانية فتح أبواب الالتحاق بأقسام الترجمة من جديد في مرحلة الليسانس.

ضرورة تنويع النصوص المدروسة حتى في مقاييس الترجمة العامة وتضمينها أكبر قدر ممكن من النصوص المتخصصة.

هوامش:

i_ بوخلف، فايزة، الترجمة في الجزائر الواقع والتحديات، مذكرة ماجستير في الترجمة، جامعة السانيا، وهران، 2015-2016، ص 107.

ii_انظر: بلعبدي، أسماء، تعليمية الترجمة في الجامعة الجزائرية: دراسة ميدانية بجامعتي الجزائر العاصمة والسانيا وهران، مذكرة ماجستير في الترجمة، جامعة السانيا، وهران، 2009-2010، الفصل التطبيقي.

iii_ برهون، رشيد و الرهوني، محمد، ديداكتيك المصطلحية.

iv4_ العميد، عبد الله، اقتراحات في سبيل إعداد أفضل لطلبة الترجمة، نسخة معدلة من الورقة المقدمة لندوة „تكوين مترجمي الغد“، مدرسة الملك فهد العليا للترجمة، طنجة، المملكة المغربية، 8-10 نوفمبر 2006. ينظر: http://www.atida.org، تاريخ الدخول: 24-4-2017، الساعة 00:42.

v5_ المرجع نفسه.

vi_ المرجع نفسه.

vii_ خمري، حسين، الترجمة والتخصص، مجلة المترجم، عدد 10، دار الغرب للنشر والتوزيع، وهران، جويلية – ديسمبر 2004، ص 42.

viii_ Umberto Eco, Lector in fabula ou la coopération interprétative étative dans les textes narratifs, Figures, Grasset, 1985, p. 65.

ix_ روجر، كريس، مهنة الترجمة، ترجمة محمد سليمان محمد موسى، مقال منشور بتاريخ 20-1-2008، ينظر: wataonline.net، تاريخ الدخول: 23-4-2017، الساعة: 22:00.

x_ كحيل، سعيدة، تعليمية الترجمة المصطلحية، مجلة الممارسات اللغوية، مجلة نصف سنوية يصدرها مخبر „الممارسات اللغوية في المجتمع“، جامعة مولود معمري، تيزي وزو، عدد 2، 2011، ص 87.

xi_ انظر: www.univ-annaba.dz/traduction/syllabus، تاريخ الدخول: 20-4-2017، الساعة: 06:44.

xii_ بن برينيس، ياسمينة، مرجع سبق ذكره، ص ص 266-267.